عبدالسلام الزبيدي
سبق أن عبّرت في مقالين سابقيْن عن مخاطر تحوّل الإجراءات ذات الصلة بتنظيم الانتخابات الرئاسية إلى أداة من الأدوات السياسية التي ستؤثِّر سلبا في هندسة المشهد الانتخابي. وكان التحذير من التمترس وراء الحرص على الشفافية والنزاهة والحياد لتكون النتيجة بحكم الواقع، وبعيدا عن النوايا والاتهامات، تراكم العقبات أمام الراغبين في الترشّح وخاصة الجدّيين منهم. وعنوانا المقالين: “هيئة الانتخابات وإعادة هندسة المشهد الانتخابي” و”الهيئة في مرمى النقد..رئاسيات تونس ومعضلة الإجراءات”.
ويكشف الواقع اليوم، ونحن على مرمى أيّام من الإعلان عن القائمة النهائية للمترشحين، عن أنّ عدد المقبولين من الهئية ومن المحكمة الإدارية في الطور الاستئنافي من التقاضي لم يتجاوز الثلاثة، وذلك في انتظار الطور التعقيبي. ومهما يكن التبرير، فإنّه من الناحية السياسية ترجع تونس بنسق متسارع إلى الوراء المتطابق مع زمن الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. فإذا كان الوضع على هذا الحال: فأيّ دلالات لشعار رئيس الجمهورية أنّه لا رجوع إلى الوراء؟.
هيئة الانتخابات ومخالفة الدستور
لقد أدّت مقتضيات القرار الترتيبي الصادر عن هيئة الانتخابات حول شروط الترشّح تنزيلا للنص الدستوري مباشرة دون المرور بقانون أساسي يصدره مجلس النواب إلى صعوبات وعقبات وجدنا صداها في تدحرج عدد الملفات المقبولة من أكثر من مائة عند الإيداع، إلى 17 عند الفرز الأوّلي ثم ثلاثة فقط عند إعلانها القائمة الأوّلية.
فأيّ معنى لإجراءات تُضيّق على المترشّح حتى ولو كان القصد ما أُعلن على ألسنة الأعضاء من شفافية ونزاهة وغيرهما؟. من ذلك اشتراط البطاقة عدد 3 ( بطاقة السوابق العدلية) التي فرضتها الهيئة وردّت المحكمة الإدارية بأنّ “سندها فاسد” وأنّ طلبها “مخالف للدستور”. وقد يعترض البعض بأنّ المحكمة الإدارية قد أنصفت المترشحين، وبالتالي لا معنى للتحجّج بهذه الوثيقة التي لم تسندها وزارة الداخلية للبعض لأسباب متعدّدة.
والردّ على هذا الاعتراض متعدّد الأوجه. وجهه الأوّل يتمثل في أنّ المحكمة الإدارية نزعت عن قرار الهيئة هالة الحرص على تطبيق الدستور واحترامه، وأعادت له حجمه الطبيعي بما هو اجتهاد قابل للخطإ. وهو خاطئ بالفعل بحكم الحقيقة القضائية.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد وإنّما يتجاوزه إلى أنّ المحكمة لم تصف القرار بالخاطئ فقط بل بالفاسد قانونيا والمخالف للدستور. وبذلك نجد أنفسنا أمام هيئة بصدد تنظيم الانتخابات أصدرت قرارا مخالفا للدستور ووضعها غير دستوري ومخالف للقانون. هو وضع غير دستوري نطرا لعدم تفعيل الفصل المتعلّق بها وذي التركيبة المختلفة عن التركيبة الحالية، وغير قانوني بسبب عدم احترام المرسوم الخاص بها والذي ينصّ على التجديد الجزئي كل سنتين.
أمّا الوجه الثاني من الردّ فقوامه، أنّ المترشحين أنفقوا الكثير من الجهد والوقت ركضا وراء الحصول على البطاقة رقم 3، والرضوخ لاشتراطات وزارة الداخلية بتوفير مدّعمات ووثائق تصدرها وزارة العدل، والحال أنّ لهئية الانتخابات ولاية عامة على العملية برمّتها تمكّنها من طلب هذه البطاقة مباشرة من وزارة الداخلية، وكفى الله المترشحين شرّ تشتّت الجهد، وكفى الله كذلك شرّ التشكيك في قراراتها بل في ما هو أكثر من ذلك ممّا قد يؤدي تفصيل القول فيه إلى أروقة المحاكم.
في انتظار القول الفصل للمحكمة الإدارية
إنّ تنظيم العملية الانتخابية ليست مجرّد إجراءات، وإنّما هي أكثر من ذلك سياق ومناخ. فإذا كان المناخ ايجابيا والسياق متميّزا بالانفتاح تكون الإجراءات عامل تيسير ضمن ضوابط القانون وتحقيقا لمعايير النزاهة والشفافية وغيرهما، وأمّا إذا كان الوضع مختلفا تصبح الإجراءات أداةً وظيفتها التضييق حتى وإن سلمت النوايا وكان القصد من ذلك الحفاظ على مصداقية الانتخابات.
وما قيل عن البطاقة عدد 3 يمكن سحبه على التزكيات ليس من جهة فساد السند أو مخالفة الدستور، وإنّما من جهات أخرى على غرار تغيّر مفهوم الدائرة بين رئاسيات 2014 و2019، حيث ضاقت تمثيليتها وامتداداتها الجغرافية والشعبية، وتأخّر الإعلان عنها لتمكين الراغبين في الترشح من فسحة زمنية أكبر، وتعقّدت إجراءاتها الشكلية والمضمونية. ويضاف إليها ما صدر عن المترشحين وممثّليهم وعدد من المتخصصين في القانون من ملاحظات حول ما اعتبروه استسهال إلغاء عدد من التزكيات خاصة في الدوائر العشر ذات ال500 تزكية.
معلوم أنّ المترشحين يتحملون قسطا من المسؤولية عن عدم التمكّن من تحقيق المطلوب، لكنّ تبريراتهم لها معقولية كبرى. فالسياق العام للوضع السياسي يتميّز باهتراء منظومة الأحزاب، وتراجع دور المنظمات، وتقلّص دائرة نشاط الجمعيات، وخفوت أصوات وسائط الإعلام وخاصة منها العمومية التي طالبها رئيس الجمهورية بأن تنخرط في حرب التحرير، فضلا عن قبوع طيف من السياسيين من مختلف المشارب في السجون من بينهم من أعلن نيّته الترشح.
لقد أدى هذا الوضع بدءا بالسياق العام ومرورا بمناخ العملية الانتخابية ذاتها وانتهاء بقرارات الهئية وإجراءاتها إلى تقلّص عدد المترشحين المقبولين أوّليا إلى ثلاثة فقط، هم رئيس الجمهورية قيس سعيد، وأمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي، وأمين عام حركة عازمون العياشي الزمّال.
وبذلك نجد أنفسنا الآن أمام خيارات ثلاثة، أوّلها يعتبر أنّ القضية ليست حملة وانتخابات وإنّما حرب التحرير بما تعنيه من ضرورات وما تتضمّنه من إيحاءات. وثانيها شخصية داعمة للمترشح الأوّل منذ ابتكاره لمصطلح حكومة الرئيس وصولا إلى دعم إجراءات 25 جويلية، وها أنّ زهير المغزاوي شرع في العمل على التمايز مؤخرا منزّها نفسه عن وضعية الديكور الانتخابي. أمّا الخيار الثالث فهو العياشي الزمّال الذي يرى البعض أنّه جزء من منظومة ما قبل 25 جويلية ويعتبره آخرون ممثّلا للمقاومة الانتخابية. ويخشى أنصاره من الإقصاء في علاقة بالشكاوى المثارة حول التزكيات. شكاوى أدّت إلى إيداع أمينة مال الحزب السجن، في انتظار الآثار المجرورة المحتملة التي قد تشمل المترشّح المقبول ذاته.
ولم يبق أمام المترشّحين المرفوضين إلاّ القول الفصل للمحكمة الإدارية في قراراتها التعقيبية. قوْلٌ قد يعيد هندسة المشهد الانتخابي رغم خفوت الأمل.