فوزي الصدقاوي
ما تزال القضايا التي تشغل الفكر العربي المعاصر والمشروع القومي العربي، بالمعيّة والاستتباع، تحتل لدى المفكّرين العرب حيّزا واسعا من المناقشات والسجالات ومن الإنتاج الفكري. ورغم أنّ تجربة العرب التاريخية تشير إلى ما عانته وتعانيه من عثرات وإخفاقات، فإنّ معالجة مسارات تجربة العرب العمليّة، بالنقد ومواجهة أطروحاتها الفكرية بالمراجعة والاستشكال، من أجل إرساء قواعد الحكم الديمقراطيّ ومؤسساته وبغاية تحديث المجتمع والدولة، بنية وثقافة وأداء سياسيّا وما بينهما من علاقة. كان جهدٌ على مدى عقود طوال، يصنع فرقا، ويجدّد فقه التجربة، ويختط مسالك جديدة تتخطى أو تحاول تخطي أزمات التجربة ومعوّقات المشروع (1).
والمسألة العربيّة -كما يطرحها عزمي بشارة- ترتبط بمجمل العناصر المعيقة للتحوّل الديمقراطي، مثل تعثّر التحديث، وترييف المدينة وانتشار قيم غير حداثية فيها، والافتقار إلى ثقافة ديمقراطية، وموانع كثيرة، معطّلة لنشوء المجتمع المدني، فضلا عن تركات ثقيلة خلّفها الاستعمار وراءه، وأورثها دولة الاستقلال القطريّة، يضاف إلى كل ذلك ما تولّد عن أحزمة الفقر حول المدن من ردود الفعل وما نشأ في تلك الأوساط من ثقافة غذّت أفكارا متطرفة وأيديولوجيّات أصولية دينية وقومية وانتماءات تحت قوميّة وما قبل قوميّة، فلم تنتج فكرا إصلاحيا عقلانيا وإنّما أججت نزوعا معاديا لخيار القومية والأمة والجماعة، وأسست لاحتراب داخلي زاد في صعوبات المشروع القومي العربي، وصنعت تقاليد رسّخت معوّقات التحوّل نحو الدولة والوحدة والديمقراطيّة.
أمّا القوميون العرب، فكان تعاملهم مع مفهوم الدولة بأقل مما يستوجب من الاهتمام، ولم يكن مستساغا عندهم، وهم يجدونه مفروضا من الخارج، ومتلبّسا بتركات الاستعمار، فضلا عن أنّ الممارسة التطبيقية من قبل دولة الاستقلال القطريّة حملتهم على الاستخلاص أنّ هذا المفهوم غير متلائم مع مفهوم الأمّة، لاسيما أنّ التقسيم الاستعماري للعالم العربي ساهم خلال تجربتهم في انكفاء دور الدولة والمحافظة على جهاز الحكم، الأمر الذي أدى إلى انغلاق الفكرة القوميّة إلى أيديولوجيا وإعاقة مهمة الدولة القومية على إنشاء الوحدة.
لقد كانت أفكار النهضة العربية وهي تضع نفسها في مواجهة تحدّيات العصر، تسير في طريق منفتحة على الغرب ومتفاعلة مع الحداثة ومدافعة عن الخصوصية، ومنخرطة في تعايش مع أفكار الإصلاح الإسلامي ومع توجّهات قوى قوميّة ووطنية علمانيّة بنزعة مدنية وإنسانيّة، وبينما المدّ النهضوي في التجربة العربيّة استمر يعمل على إحياء اللغة والثقافة القوميّة بصورة متناغمة مع الأصول المرجعيّة للإسلام، ومستصحبة عمليّة تعريب طوعي شامل لعناصر في المدن العربية ذات أصول متنوعة مثل التركية والشركسية والكردية والمملوكية والسريانية والكلدانية.
لكن في مرحلة انحطاط القوميّة العربية تخلّت هذه الأخيرة -حسب عزمي بشارة- عن معنى الهويّة المتشكّلة ضمن ديناميكية الانتماء الثقافي والسياسي، واستقالت عن دورها في بناء الأمة ومؤسسات الدولة الحديثة، وصارت تتمسّك بالقول إن هويّتها العربيّة غير متغيّرة. وكان ذلك كفيلا لأن يُحوّلها إلى عقيدة غيبية تستند إلى ما تعتقد أنّها خصائص موضوعيّة وثابتة في التاريخ العربي، وهو ما أفقد مشروعها جاذبيته، وقدرته على الاستقطاب والتعبئة. وقد كان استناد أنظمة الحكم القوميّة إلى انتماءات ما تحت قوميّة وما قبل قوميّة وانتماءات حزبيّة قد جعلها في حالة تراجع محبطة، الأمر الذي أعاق صيرورة تطورها نحو الدولة القوميّة الديمقراطيّة ونحو الوحدة.
ويعترض عزمي بشارة، في هذا الصدد، على من يقول إنّ الوحدة العربيّة تنهض على أساس وحدة واقعيّة، ويرى أنّه قول مجانب للصواب لأن الوحدة مقصد تعمل الحركة القوميّة على إرسائها، بتشكيل ما في الواقع من عناصر مفيدة، وتوليفها في نسيج واحد ويصهرها في رؤية تؤسس لها، فهي ليست عناصر قائمة تحملها الحركة القوميّة، لتناضل بها، بل تلتقط مفرداتها المتناثرة حركة تقوم مقام الوكيل الاجتماعي لتناضل من أجلها، بعد صوغها وصناعتها وتشكيلها، في جوامع ثقافية ومشتركات، لتحوّل إلى أهداف وسياسات وطموحات قصوى، فإرادة الحركة السياسية الطليعيّة، هي تلك التي يَسَعُهَا أن تحوّل العناصر الواقعيّة والثقافيّة إلى عوامل توحيد ممكنة.
والقوميّة بما هي مفهوم حديث عند العرب، لا تحتاج إلى من يثبِتُ أنّها أمر قائم في الماضي، أو إلى من يُثبِتُ وجودها أو قيامها بما يُسْقَطُ من الماضي، لكون قيامها إمكان تاريخي إنّما يـنشأ ويتشكّل بتخطي ما يُعيقها وما يُعطّل تحوّل دولها إلى الديمقراطيّة. فمسار توحيد العالم العربي ممكن، متى كان طوعيّا من الدول القطريّة، لأنّه خيار يعبّر عن رغبة أغلبية متحققة في كل دولة. ولكن لا يتهيّأ ذلك في الواقع، إلّا إذا حقّقت الدول العربية تحوّلها إلى الديمقراطيّة. وهو ما يَعني أنّ المشروع القومي العربي يجب أن يستبطن الديمقراطيّة في تصوّره العروبي، وفي تصوّره للوحدة العربية، بما هو مشروع سياسي تعدّدي قائم على مبدإ المواطنة وعلى أساس الانتماء إلى الدولة، وبما يحول دون الارتداد إلى القبيلة والطائفة والتذرّر إلى الهويات الدنيا.
الواقع أنّ ما يبدو في الفكر القومي العربي من اهتمام بالسياسة والنظام السياسي، وهو يُقدّم القوميّة العربيّة على أنّها تعبير عن هويّة ثقافية، لم يكن على الحقيقة -كما هو في تقييم عزمي بشارة- إلا هروبا من نظرية الدولة ومن تصوّره للدولة العربيّة القطريّة والقوميّة. فالفكر القومي العربي قَبِل التعامل مع الدولة، بوصفها إرثا استعماريا، وهو يتصوّر أهميّتها في نطاق مرحلة انتقاليّة نحو الوحدة. وحريّ بالقوميين ألّا يصرفوا النظر عن التفكير في الدولة، بحجة واقع التجزئة. بل عليهم الانصراف إلى التفكير في نظريّة الدولة القوميّة، والاهتمام بالنظريّة الديمقراطيّة. فالقوميّة العربيّة تقع عليها وظيفة تخطي حالة التجزئة، وحمل هذا الواقع بدُولِه المتعدّدة نحو أفضل أنواع الوحدة المناسبة.
على أنه يتعيّن على المجتمع التقليدي أيضا -وفق عزمي بشارة- مسؤوليّة التفاعل مع الدولة من خلال هَيْكَلَة نفسه باتجاه مجتمع مدني يضطلع بمهمة التوحيد ومنعه من التشظي، والسقوط في التشتت، متى تراجعت الدولة عن دورها وضعُفت هياكلها، فيتولّى المجتمع مهمة حماية الدولة، وإعادة إنتاج ذاته، على طريق مساعدة الدولة على التحوّل نحو الديمقراطية. فالمجتمع الذي لا يضطلع بهذه المهام، ستتوقف عجلة تطوّره وسيكون عاملَ فُرقة وسببا إضافيا في ضعف الدولة.
ولأن القوميّة العربيّة ما تزال بزخم تجربتها الطويلة والمعقّدة، وبعناصرها الواقعيّة، مرشّحة للتحوّل إلى أمّة، فإنّ الوعي بصيرورة تطوّرها وفهم لضرورة انتقالها من القومية الثقافية إلى القوميّة السياسية عربيا، كفيل بأن يمنحها في سياق ديناميكيات التجربة إمكانية تقرير مصيرها والتحوّل إلى دولة قومية وأمّة مواطنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عزمي بشارة: في المسألة العربية، مقدمة لبيان عربي ديمقراطي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1 ،2007.