تونس

ذكرى 3 جانفي.. الخبز ومعضلة الدّعم

وجدي بن مسعود

معتقلو 25 جويلية

في مذكّراته “نصيبي من الحقيقة”، يصف الوزير الراحل محمد مزالي -أحد أشهر رجالات الرئيس الحبيب بورقيبة- “انتفاضة الخبز” التي اندلعت في جانفي/كانون الثاني 1984 بـ”مؤامرة” حاكتها “مجموعة الأشرار” ممن سعوا إلى الإطاحة به من كرسي الوزارة الأولى، في إشارة إلى شقّ من رجالات السلطة كان يقوده وزير الداخلية الأسبق إدريس قيقة، بترتيب وتنسيق مع وسيلة بن عمار عقيلة الرئيس التونسي العجوز.

  رواية مزالي للأحداث، تعكس محاولة خفيّة للتفصّي من مسؤولياته السياسية عن أحد أخطر القرارات الاقتصادية التي اتّخذتها حكومته برفع الدعم عن الخبز ومضاعفة سعره من 80 إلى 170 مليما، وهو القرار الذي نسبه كاملا إلى بورقيبة قائلا إنّه اتّخذه تحت تأثير بطانته وزوجته.

أوّل انتفاضة شعبيّة  

بجرّة قلم أحال مزالي -الذي طالما وُصف في الدوائر السياسية الداخلية والدولية بكونه الخليفة المحتمل لبورقيبة- أوّل انتفاضة شعبية للتونسيين منذ الاستقلال إلى مجرّد “مؤامرة سياسية” تستهدفه، نتيجة صراع بين أجنحة السّلطة، مرفقة بتبريرات اقتصادية ترتبط بقضية صندوق التعويض وضرورات الإصلاح الاقتصادي، والتي كانت تتطلّب إعادة تقييم الأسعار الحقيقية لمشتقّات الحبوب والمواد الأساسية المدعومة.

خلفيات اجتماعية وتاريخية

الراوية التي قدّمها المزالي وإن كانت تتضمّن “نصيبا من الحقائق” التي عايشها وشهدها من موقعه وزيرا أوّلا للحكومة، إلّا أنّها تبدو قاصرة عن الإلمام بمسار هذه الانتفاضة وخلفياتها الاجتماعية.

يُجمع الباحثون للشأن التونسي أنّ أحداث جانفي 84، شكّلت لحظة محورية في مسار الحراك الاجتماعي في تونس، حتى باتت مفتاحا رئيسيّا لتحليله واستيعاب العوامل التي أثّرت فيه.

جاءت انتفاضة الخبز بعد سنوات من أحداث الخميس الأسود عام 1978، وما أعقبها من قمع للحركة النقابية، لم تتعافَ من آثاره لفترة طويلة، فكانت المسيرات التي بدأت من جنوب البلاد بمثابة “الحدث القادح” الذي أعاد حشد الشارع وتعبئته، كما أظهرت قدرته على التنظّم العفوي والارتجالي في غياب قوة مركزية تقود الحراك الاجتماعي.

ويرى مؤرّخون في السياق ذاته، أنّ أحداث الخبز رسّخت دلالات مهمّة، أبرزها رمزية شهر جانفي التي تجذّرت تاريخيّا وارتبطت بالاحتجاجات الشعبية حتى صار عنوانا لـ”شتاء تونس الساخن”.

اختلال اجتماعي وطبقي

ومنذ وصول محمد مزالي إلى القصبة مطلع الثمانينات، بدا واضحا الخلل الاجتماعي والطبقي الذي أنتجته سياسات الانفتاح الاقتصادي التي قادها سلفه الهادي نويرة.

استفحل ثراء الطّبقات المحظوظة والمرفهة بفضل الامتيازات والتسهيلات والتشجيعات التي منحها نويرة للقطاع الخاصّ والمستثمرين ورجال الأعمال، لكنّه خلّف مزيدا من التصدّع الطبقي كان يحمل في طيّاته “ثورة للجياع”.

حاول مزالي معالجة هذا الاختلال المتزايد والذي كان يُلقي بضلاله على الملايين من التونسيين من الفئات المتوسّطة ومحدودة الدخل، عبر تقديم بعض المكاسب إلى الطبقات العاملة والموظّفين.

أقرّت حكومته عدّة زيادات في الأجور بلغ بعضها عشرين دينارا منتصف الثمانينات، حتى ذاعت وقتها عبارة “كارطة تحكّ في الكارطة”، والتي تعني باللهجة التونسية “ورقة نقدية فوق الأخرى”، وهي الكلمة التي أطلقها الوزير الأول الراحل بهدف شراء سلم أهلي زائف وترقيع هوة اجتماعية وطبقية آخذة في الاتّساع.

معضلة صندوق الدّعم

في مذكّراته حاول مزالي تسويق خلفية اقتصادية لقرار رفع سعر الخبز، والذي انضاف -حسب روايته- إلى الصّراع السياسي على الخلافة بين أجنحة بورقيبة العجوز لتكتمل معه أضلع “المؤامرة”، كما وصفها.

سنة 1983 تحوّل العجز المتنامي لصندوق التعويض إلى معضلة سياسية واقتصادية بعد أن أصبح يبتلع 10% من إجمالي ميزانية الدولة.

وحسب الأرقام التي أوردها الوزير الأول الأسبق، فإنّ المبالغ المخصّصة للدعم خلال 10 سنوات ارتفعت من 5.8 مليون دينار إلى 184 مليون دينار سنة 1983، حتى تحوّل صندوق التعويض إلى “هوة بلا قرار”، وفق قوله.

“عجز مالي مزمن وتضخّم اقتصادي وموازنة مثقلة بالمديونية”، انضاف إليها ضعف الإنتاج الفلاحي خلال تلك الفترة، ما جعل من مراجعة دعم مشتقّات الحوب وخاصّة سعر الخبز، قرارا قابلا للدراسة -كما يقول مزالي- والذي استشهد بمعطيات ودراسات تشير إلى أنّ دعم الخبز والدقيق، “لم يعد آلية ناجعة لضمان وصول الدعم إلى مستحقّيه من محدودي الدخل وتجسيد العدالة الاجتماعية”.

تحقيق تلفزيوني

مطلع شهر سبتمبر/أيلول 83 وفي سعي للتأثير في بورقيبة، وجّهت “الماجدة” وسيلة بن عمار بإيعاز من إدريس قيقة تعليمات إلى مسؤولي التلفزيون التونسي، بإعداد تحقيق بثّ في نشرة الأخبار عن إهدار الخبز بكميات كبيرة وبيعه علفا للحيوانات بدلا عن الشعير والعلف.

كان لمشاهد التقرير وإحصائيّاته أثر في الرئيس العجوز الذي غضب من الهدر الكبير لـ”نعمة ربي” -كما يطلق التونسيون على الخبز- ودعا إلى مجلس وزاري بإشرافه لبحث الموضوع.

 وبلا دراسات مسبقة أو مهلة زمنية كافية، فرض بورقيبة مضاعفة ثمن الخبز من 80 إلى 170 مليما في مشروع الميزانية الجديدة، وترك لوزيره الأول عبء إعداد متطلّبات القرار والإعلان عنه في أواخر ديسمبر/كانون الأول 83.

كان الإعلان عن القرار منطلقا لشرارة متسارعة من الأحداث، بدأت من مدينة دوز التابعة لولاية قبلي في 29 ديسمبر 83 على شكل مظاهرات أسفرت عن مواجهات بين المتظاهرين والشرطة، وتمدّدت معها شرارة الحريق نحو مدن أخرى بالجنوب مثل قابس وقفصة ومدنين، قبل أن تنتقل إلى جبنيانة وصفاقس ومن ثم إلى مناطق الوسط الغربي والشمال.

بلغت الاحتجاجات أوجها يوم 3 جانفي 84 مع وصولها إلى العاصمة، لتصبح المواجهة مفتوحة بين المحتجّين ورصاص الأمن، ومع تزايد عدد الضحايا أعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وأمرت قوات الجيش بالنزول لاستعادة السيطرة على الأوضاع.

بمجرّد خطاب تلفزيوني موجز، مسح بورقيبة دماء أكثر من 90 شخصا سقطوا بالرصاص خلال الأحداث والاحتجاجات، ونجح بالكاد في إنقاذ مكانته الاعتبارية لدى التونسيين، ليجعل من وزيره الأول شمّاعة سياسات اقتصادية اعتباطية أشعلت ثورة الشارع بعد أن هدّدت “رغيفه”، دون بدائل فعلية تجسّد شعار “إيصال الدعم إلى مستحقّيه الحقيقيين”.

شكّلت لحظة جانفي 84 نواة الثورة التي اختمرت لاحقا عبر عدّة محطّات تاريخية ونضالية شعبية، إذ ساهمت في كسر عدة حواجز نفسية ومعنوية لدى جموع التونسيين الّذين جسّدوا بنزولهم إلى الشوارع شعار “لا خوف بعد اليوم”.