وجدي بن مسعود
الفاتح من نوفمبر 1954، هبت ثورة التحرير في الجزائر ضد سياسة الاحتلال الفرنسي التي بسطت “مستعمرات ما وراء البحار” بالقارة الإفريقية. ثورة كسرت أسطورة الجيش الفرنسي الذي لا يقهر.
ثورة الجزائر أطاحت خلال سبع سنوات ونصف من الكفاح المسلح، إرثَ 130 سنة من التغريب القسري وسياسة “الفرنسة”، والاستيطان الاستعماري الذي مورس على الشعب الجزائري، بهدف طمس هويته العربية والوطنية واقتلاع جذوره وتاريخه الإسلامي والأمازيغي.
ثورة كان قوامها في البداية 1500 رجلاً “عقدوا العزم على أن تحيا الجزائر”، لتجسد ملحمة شعبٍ كرس بتضحيات شهدائه أيقونة ثورة يضرب بها المثل إلى اليوم.
لم تكن ثورة التحرير الجزائرية، إلا سلسلة تراكمات لمسارٍ طويلٍ من العمل الوطني على مستويات مختلفة منذ بداية القرن العشرين، شملت المجالين السياسي والفدائي، والانتفاضات الشعبية التي عمت مختلف مناطق الجزائر، لتترجم أولى إرهاصات الثورة دون قيادة ولا تنظيم.
محاولات استرداد حقوق الشعب الجزائري عبر المسارات السياسية والتفاوضية، لم تجد آذانا صاغية لدى السلطات الاستعمارية، التي أمعنت في التنكيل بالمقاومين وارتكبت جرائم تصفية لقمع التحركات الشعبية والثورية، كان أعنفها وأشدها دموية مجازر ماي 1945، سقط فيها عشرات الآلاف من الشهداء، الأمر الذي راد من قناعة القيادات والمناضلين السياسيين بضرورة “خوض المعركة”.
من العمل السياسي إلى ساحة الثورة
أسهم إخفاق آخر المبادرات السياسية، والمعروفة باللجنة الثورية للوحدة والعمل، في “اختمار” مشروع الثورة بين ثلة من المناضلين والقيادات،فخاضوا سلسلة من الاجتماعات و المناقشات ضمن ما عرف “بمجموعة الـ22.
عقد الاجتماع الأول في جوان 1954 بمنزل المناضل مراد دريش، وضم 22 مشاركًا ممثلين عن كل مناطق الجزائر، وتم الاتفاق على الاستعداد لإطلاق الثورة الوطنية المسلحة.
ثم أشرفت مجموعة مكونة من ست قيادات تاريخية صلب جبهة التحرير الجزائرية، على رسم الخطوط الكبرى للعمل الثوري المسلح، وتحديد موعد انطلاق الثورة، وتوجيه العمل السياسي والعسكري.
تكونت هذه المجموعة التاريخية التي أضحت تعرف لاحقًا “بمجموعة الستة الذين فجروا الثورة الجزائرية”، من محمد بوضياف والشهيد ديدوش مراد، الشهيد مصطفى بن بولعيد، الشهيد العربي بن مهيدي، وكريم بن بلقاسم ورابح بيطاط.
كانت لحظة انطلاق الثورة الجزائرية، انعكاسًا لمحيطها المغاربي والعربي، الذي شهد مدًا تحرريًا، فيما كان العمل الوطني والفدائي المسلح يشهد أوجه في كل من تونس والمغرب، تمهيدًا للنصر النهائي، ما أعطى زخمًا إضافياً للقضية الجزائرية، التي استفادت من دعمٍ عربي شعبي ورسمي.
دور تونس ومصر
أضحت تونس بعد استقلالها سنة 1956، بمثابة قاعدة دعمٍ وإسنادٍ مادي ومعنوي ولوجستي للثوار الجزائريين، وجبهةً موازيةً للمعركة، بفضل التعاطف الشعبي الواسع الذي لقيه المناضلون خاصة بالمناطق الحدودية، إلى جانب المساعدات الرسمية من الحكومة التونسية.
دفع تلاحم النضالات بين شعبي تونس والجزائر القيادات الاستعمارية إلى ارتكاب جرائم حرب ممنهجة، بهدف ترويع الأهالي وعزل الثوار، كانت مجزرة ساقية سيدي يوسف على الحدود التونسية الجزائرية أشهرها، بما وثقته من امتزاج للدم التونسي الجزائري.
على الضفة الأخرى، قادت مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر جهود تدويل قضية الجزائر، وأسهمت عبر احتضانها الجامعة العربية والقيادات السياسية لجبهة التحرير، في تفعيل الضغوط الدولية على فرنسا، وكشف جرائمها الاستعمارية ضد الشعب الجزائري كما ساهمت في تدريب جيش التحرير وتسليحه.
مساء اندلاع الثورة يوم 31 من أكتوبر، لم يكن بحوزة الثوار أكثر من 400 قطعة سلاح، من بنادق ورشاشات عتيقة تعود إلى زمن الحرب العالمية الأولى، لكن زخم الثورة ونداءها سرعان ما اكتسحا الجزائر من شرقها إلى غربها، بل واجتذب كذلك مئاتٍ من المتطوعين العرب الذي شاركوا إخوانهم شرف خوض معركة الاستقلال.
خلال سنواتٍ قليلةٍ، تحولت ضحكة الجنرال روجي ليونارد حاكم الجزائر الفرنسي، هازئا من “حفنة متمردين” إلى حملات يائسة مسعورة، بلغت حد نصب المتاريس حول القصبة وبكل شوارع الجزائر العاصمة، في محاولة للحد من عمليات خلايا المقاومة السرية، التي كانت ترفد قوات الثورة بالجبال وتقض مضجع الفرنسيين.
كان إيمان الجزائريين بالثورة وتحرير الوطن حاسمًا لا تردد فيه، وعنوانًا ترجم أشواق الحرية. إيمان كتب مُعّمدًا بالدماء والتضحيات الغالية تاريخَ الفاتح من نوفمبر مرجعيةً ثوريةً غير مسبوقة في التاريخ الحديث، يفخر بها العالم الحر كل عام بوصفها: أيقونة الثورات.