رأي

د. عزمي بشارة.. في الهويّة والمشروع القومي العربي 

فوزي الصدقاوي
يلاحظ عزمي بشارة في نطاق انشغاله برصد تجربة التيار القومي العربي(1)، أنّ المقولات الحاملة لمعنى الطائفية السياسية حقّقت شيوعا لافتا في الأوساط السياسية والثقافية العربية، منذ تسعينات القرن العشرين، مستنتجا أنّ تعبيرات مثل “الموقف المسيحي” والتوحيد السني” “والمجتمع الدرزي” و”الالتفاف الشيعي”، ترد في الخطابات المتداولة اصطلاحات أنيقة، تقوم مقام أدوات تشريح الواقع السياسي العربي، وتشخيصه، لكن مفعولها السلبي في وعي الناس، كان دائما كمشرط التشريح، حين يقطّع الجسد إلى أعضاء.
فمثل هذه المقولات لا تقدّم شرحا ولا تفسيرا ولا تحليلا ولا تفكيكا، على عكس ما يوهم استعمالها في مثل تلك الخطابات. لأنّها لا تفعل أكثر من أنّها تعيد، في الواقع، بعث الظواهر المجتمعيّة والتاريخية، من حالة الكمون إلى حالة الوعي المباشر بها لدى عامة الناس. وهي “تحت مسميات طائفية”، تدفع بإنتاج جماعة هويّة في خدمة السياسة، وتتولّى صياغتها في خطاب “عَالِـم”، لكن يتعذّر الوثوق فيه وفي براءة مقاصده. ورغم أنّ هذا الخطاب يُرَوًّج له بدواعي عقلنة الظاهرة الطائفية، فإنّه في الواقع لا يزيد إلّا في ترسيخ ثقافة التخلّف، وتسويق الطائفية السياسية وثقافة تحويل الروابط الوشائجيّة، إلى هويّات سياسية عربيّة.
وقد ساعد على رواج هذا الخطاب، ما آلت إليه التجربة العراقيّة الحاليّة (العراق في العشرية الأولى من الألفية الثالثة)، وما هيّأت له من أرضيّة مشكّلة للوعي الطائفي السياسي العربي، تزيد عن حالة لبنان، لما للعراق من مركز ثقل إستراتيجي، وقوة تأثير في تشكيل سياسات المنطقة، مع زخم تحوّلاته العميقة، من القوميّة باعتبارها أيديولوجيّة إلى “الديمقراطيّة” كترياق غربي لفائدة “الشرق الأوسط الجديد”.
أعادت “الديمقراطية الوافدة” في العراق إحياء الطائفيّة، كما أعادت تصميم الخارطة السياسية على قاعدة الطائفيّة السياسية، فصار السِلم الأهلي لا يزيد عن حالة تعايش بين مكوّناته، وأخذت المساواة أمام القانون، صورة المحاصصة في ظل التوافق الطائفي، وأصبحت جماعات الهويّة المسيّسة متقدّمة على معنى الأمّة الجامعة، وبوّأت نفسها مكانا فوق المواطنة الفرديّة والولاء للدولة. لقد تخلّت “الديمقراطية الوافدة” على العراق على المنافسة، وجعلتها بعيدة عن البرامج التي تخدم عموم المواطنين، وكرّست منافسة طوائفية على مراكز النفوذ في الدولة، فباتت المواقف تعبّر عن مصالح الطائفة أو مصالح جماعة هويّة، دون منافسة ولا أرضيّة مشتركة بينها وبين جماعات هويّة أخرى.
ويعتقد ديمقراطيون عرب، في هذا السياق، كون التجربة العراقيّة كشفت أنّ الولاء العربي هو أساسا للجماعة العضوية المباشرة (طائفة، مذهب، عشيرة،)، وأنّ هذا الولاء جعل من اتّباع النظام التوافقي أمرا واقعيا وضروريا، أمّا عزمي بشارة فإنّه يؤكّد من جهته، أنّ تجربة الديمقراطيّة الوافدة على العراق جاءت بعد انهيار الدولة وتفكيك أساساتها من قبل الاحتلال الخارجي، وفي ظل مجتمع مجرّد من الدولة فإنّه لا يمكن، في مثل هذه حالة، أن تَـنتج ديمقراطيّة، فضلا عن أن تنتج مواطنة ومجتمعا مدنيّا.
كما أنّه في حالة التفكّك السياسي والمجتمعي، فإنّ النظام التوافقي، ينصب أساساته على قاعدة الهويات الدنيا، وليس على مؤسسة الدولة، وأنّ أيّ انتخابات ديمقراطيّة، في ظل هكذا نظام، ستتحدّد فيها نوايا التصويت وقراره على أساس الانتماء إلى جماعة الهويّة، الأمر الذي يلغي النظام النسبي ويكرّس الأكثريّة الطائفيّة أو المذهبية أو العشائرية ويأبّدها. ويجعل الأقليات السياسية أقليات مضطهدة، ويحرمها إلى الأبد من المشاركة في الحكم.
ويعتبر عزمي بشارة أنّ الاعتقاد المستخلص من التجربة العراقية، بضرورة تبنّي النظام التوافقي هو استخلاص لا ينتهي إلى تكريس الطائفيّة السياسية وحسب، وإنّما يلغي إمكانات التطوّر السياسي والمجتمعي التي تتيحها القوميّة العربيّة، أساسا لبناء الأمّة ومرتكزا لهويّة الدولة الحديثة. ويستدل بشارة بالتجربة التاريخية التي أبانت أنّ القومية كانت مرتكزا لهويّة الدولة الحديثة، فألمانيا لا تكون ألمانيا دون أكثريّة ألمانيا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فرنسا، فهي لا تكون كذلك دون أن تكون الأكثريّة فرنسيّة.
لكن ما يمكن لحملة فكرة القومية العربيّة استخلاصه فعلا، من التجارب التاريخية لتشكّل القوميات الأوروبيّة، هو كون الهويّة تصوّر متشكّلا ومتغيّرا ومتطوّرا، وبالتماهي مع تلك الهوية المتخيّلة، تُعاد صياغة الرؤيّة التاريخية للذات ومنها يتمّ إعداد برامج التعليم وخطط التنشأة التربويّة والاجتماعية والثقافيّة.
وينبّه عزمي بشارة إلى أنّ تهميش فكرة القوميّة العربية، تعود إلى عرقلة عمليّة بناء الأمة/الدولة، وتحييد قدراتها التوحيدية المادية وفي مكوناتها الرمزيّة والثقافية التاريخية الجامعة، وفي إمكاناتها الكامنة في وجدان العرب، وأنّ تحويلها إلى أيديولوجيا تدّعي القدرة على الإجابة عن أسئلة رجل الشارع، سيعرّض المشروع إلى خطر الفكر الشمولي.
كما يمكن -حسب بشارة- لحاملي المشروع القومي العربي، تخطّي أعمال عرقلة البناء بالحرص على الفصل بين القوميّة والدولة، وبالاستناد إلى مبدإ المواطنة أساسا للعلاقة بالدولة والتعاطي مع الديمقراطيّة بما هي ضامنة للحقوق المدنيّة ومنظمة لإدارة الصراع على الحكم. فالقوميّة من حيث هي مفهوم حداثي، توفّر للدولة الحديثة ما تكون به قادرة على المساهمة في تثبيت وحدة الأكثريّة في الدولة، وعلى استيعاب أدوات الحداثة، وتشكيل هويّتها القوميّة الجامعة على نحو تجيب عن أسئلة المستقبل وتستهدي برؤيتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د. عزمي بشارة، أن تكون عربيا في أيامنا، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 239.