عالم

الدونباس..برميل “بارود أوكراني” يهدد بتفجير صراع روسي غربي

هل تكون أوكرانيا محور مواجهة مسلحة بين روسيا وحلف الناتو … “الدونباس” شفرة الحرب والسلم في الأزمة الملتهبة على ثلوج المنطقة 

مع إعلان المتحدث الرسمي باسم الكرملين عن قيام موسكو بحشد أعداد كبيرة من القوات على حدود إقليم “الدونباس” في أوكرانيا، يقف الوضع على حافة مواجهة عسكرية وشيكة قد تشكل إحدى أخطر الأزمات المسلحة في منطقة “أوراسيا”، كما يطلق الخبراء على هذا الفضاء الجغراسياسي المرتبط بروسيا في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى.  

فالمواجهة التي يتحسب لها المراقبون والمتابعون للشأن الروسي والأوربي، لن تكون مجرد حرب محدودة النطاق بين موسكو وكييف التي تتخوف من هجوم روسي على أراضيها، بقدر ما ستكون شرارة صراع إقليمي غربي روسي تلوح تداعياته السياسية والعسكرية مشرعة على كافة الاحتمالات.

ويبدو التوتر الذي ينبئ باندلاع الحريق فوق ثلوج المنطقة ضبابي الملامح والتفاصيل بالنسبة إلى المتابع العربي، ما يزيد من حدة تساؤلاته عن خلفية الأزمة ذات الأبعاد المتشابكة تاريخيا وجغرافيا، فما الذي يحدث على حدود”دونباس”، وكيف يمكن فهم تعرجاته ضمن مسار العلاقات الروسية الأوكرانية المتشعبة عبر التاريخ؟

ارتباط تاريخي معقد و”قصة روسية بامتياز”

لعل العبارة الروسية الشهيرة التي تصف كييف بكونها “أم المدائن الروسية”، تختزل الأهمية الاستراتيجية لأوكرانيا بالنسبة إلى الأمن القومي الروسي، وامتداده التاريخي والجغرافي داخل أوروبا الشرقية.

ويصف تقرير لمركز الدراسات العربية الأوراسية عن الصراع في المنطقة، أوكرانيا بأنها “قصة روسية بامتياز منذ عهد الإمارات السلافية، ما جعلها بمثابة الثغر الروسي على الحدود الغربية”.

اكتست هذه المنطقة ذات الإطلالة المركزية والواسعة على البحر الأسود أهمية قصوى عبر التاريخ الروسي الوسيط والمعاصر، فكانت شاهدة على نهضة الإمارات السلافية وتوحدها وصولا إلى قيام الإمبراطورية الروسية، فضلا عن الحروب التي خاضها الملوك والقياصرة الروس لتحريرها من الغزو المغولي، ومن بعدها الحروب المتتالية مع العثمانيين للهيمنة على شبه جزيرة القرم والأقاليم الجنوبية والتي استمرت حتى منتصف القرن 19.

“جورج عليك أن تفهم هذا الأمر جيدًا، أوكرانيا لا يمكن وصفها حتى بأنها دولة، ما هي أوكرانيا؟ جزء من أراضيها يقع في أوروبا الشرقية، ولكن الجزء الأكبر منها هدية منا”، عندما توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهذا الكلام إلى نظيره الأمريكي الأسبق جورج بوش خلال قمة الناتو سنة 2008، لم يكن تصريحه مبالغة تاريخية بقدر ما مثل انعكاسا للنظرة الروسية التاريخية تجاه أوكرانيا، والتي يرجع للروس الفضل في خلقها كدولة وإقامة حدودها الحالية خلال الحقبة السوفياتية بعد ضم عدد من المدن والمناطق إليها بما في ذلك شبه جزيرة القرم.  

لم يختر سكان عديد المناطق خلال تلك المرحلة التي أدت إلى إنشاء كيان أوكرانيا تبعيتهم السياسية بعد تشكيل الحدود، ولكنهم ظلوا على ولائهم الثقافي والحضاري والتاريخي لـ”روسيا الأم”، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991 وإعادة تشكيل أوكرانيا الحديثة بحدودها القائمة منذ 1939.

“الانقلاب على روسيا” ودعوات الانفصال

يعد التصعيد الأخير المتبادل بنظر المتابعين حلقة جديدة من المواجهة الممتدة بين روسيا والغرب ممثلا في حلف الناتو على الصعيد العسكري، والتي بلغت ذروتها في 2014 بعد قيام موسكو بضم القرم على إثر استفتاء شعبي معلن من جانب واحد.

مثل انسلاخ شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا حدثا فاصلا عقب ما عرف بـ”أحداث الميدان الأوروبي” في العاصمة كييف، أو الثورة الشعبية التي قادها القوميون الأوكرانيون من ذوي التوجهات المناهضة لروسيا في الفترة الممتدة بين نوفمبر 2013 و فيفري 2014، والتي انتهت إلى إسقاط الرئيس المنتخب المقرب من موسكو فيكتور يانوكوفيتش، والإفراج عن زعيمة المعارضة يوليا تيمتشينكو المسجونة بتهم فساد مالي منذ سنة 2011.

أثارت “الثورة الشعبية” موجة عداء لروسيا نتيجة تحركات القوميين الأوكرانيين، لكنها بالمقابل فجرت انقساما داخليا في البلاد بعد انتفاضة القوميات الناطقة باللغة الروسية شرق البلاد، والتي أعلنت الانفصال عن الحكومة المركزية ردا على سلسلة من القرارات، كان أبرزها حظر استعمال اللغة الروسية وفرض الأوكرانية كلغة موحدة، بموجب قانون “الشعوب الأصلية” الذي استثنى الناطقين بالروسية من حقوقهم في استخدام لغتهم، ما اعتبر تهديدا لتراث هذه القوميات وهويتها الثقافية التي تنظر إلى الروسية باعتبارها رمزا تاريخيا لانتمائها، الأمر الذي جدد الدعوات الانفصالية عن كييف والانضمام إلى روسيا والتي ظهرت في السابق عقب انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينات.

لكن الساحة السياسية في روسيا كانت مختلفة عن التسعينات ومهيئة هذه المرة لسماع الأصوات القادمة من دونباس، فبعد تجربة روسيا في أوسيتيا الجنوبية بجورجيا سنة 2008، كان واضحا أن الرئيس بوتين يبعث برسالة صارمة لأوروبا والولايات المتحدة بشأن التدخل والدفاع عن الأقاليم والأقليات الروسية الموجودة في دول الجوار.

 وسرعان ما حظيت الحركات الانفصالية المسلحة في كل من إقليمي لوغانسك ودونيتسك، بدعم عسكري وسياسي من موسكو.

 فرضيات المواجهة والحل

في حديث لموقع بوابة تونس، أوضحت الصحفية والباحثة المتخصصة في الشأن الروسي مرام الحمصي، أن لب التصعيد الأخير يكمن في رفض موسكو أي وجود عسكري غربي أو قوات الناتو على حدودها، والذي ينظر إليه في العقيدة السياسية والعسكرية الروسية كتهديد خطير للأمن القومي ومحاولة للتمدد ضمن العمق الاستراتيجي.

وتفسر الحمصي الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا في هذا السياق، بكونها ورقة ضغط سياسي تأكيدا على استعدادها لحماية الإقليمين الناطقين بالروسية شرق أوكرانيا من أي هجوم عسكري من كييف مدعوما من حلف الناتو.

وأضافت الباحثة في الشأن الروسي “في مقابل التخوفات التي يعبر الغرب عنها والتي يصفها بالأطماع الروسية منذ 2014 بعد ضم القرم ودعم الانفصاليين في دونباس، فإن تصريحات موسكو بدت واضحة باتجاه تكذيب هذه المخاوف وتكرار التطمينات بعدم وجود أية نوايا عدائية لغزو أوكرانيا، ما يجعل حشودها العسكرية بمثابة أداة استراتيجية للردع وضمان توازن القوى مع الغرب”.

وفي ظل المستجدات الأخيرة وتزايد الحشود العسكرية الروسية على حدود دونباس، لم تستبعد مرام الحمصي أن يشهد الجو مزيدا من التوتر خلال الأيام المقبلة، نتيجة تصريحات كييف وقيام واشنطن وعواصم غربية أخرى بسحب رعاياها من أوكرانيا.

وفي قراءتها للدور الغربي الداعم لكييف في مواجهة موسكو، ترى الحمصي أن الناتو يسعى إلى “تحويل أوكرانيا إلى منصة لضبط النفوذ الروسي دوليا، وإضعاف نفوذه على الأرض نتيجة تخوف متبادل بين الجانبين منذ سنوات”.

وذكرت محدثتنا في السياق ذاته، بأن منطلق الأزمة الأخيرة منذ منتصف العام الماضي جاء على خلفية المناورات العسكرية التي نفذها حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، والتي اعتبرتها روسيا بمثابة تهديد على حدودها ومحيط نفوذها الاستراتيجي والتاريخي.

وبشأن فرضيات المواجهة واندلاع صراع عسكري، اعتبرت مرام الحمصي أن إمكانية نشوب الحرب تبقى غير حتمية أو مؤكدة، بالنظر إلى تأثيرها على الأمن الأوروبي، فضلا عن تبعاتها على موسكو كونها ستضاعف من حجم العقوبات المسلطة عليها اقتصاديا وسياسيا.

وأضافت محدثتنا “لا أعتقد أن هذا الخيار مطروح خاصة أن روسيا تعاني من العقوبات الأوروبية المفروضة عليها منذ سنوات، ما يجعل الاقتصاد الروسي مهددا، إلى جانب وجود قوات روسية في عدة جبهات مفتوحة أهمها سوريا وكازاخستان”.

وقالت الباحثة المختصة في الشأن الروسي لبوابة تونس، إن المفاوضات الجارية حاليا بين واشنطن وموسكو ستحدد مسار الأزمة، مشيرة إلى أن مفتاح الحل يكمن في الضمانات الأمنية التي تطالب بها روسيا، والتي تشمل الالتزام بعدم توسع الناتو شرقا وضم حلفاء جدد ضمن محيط النفوذ الروسي مثل أوكرانيا وجورجيا، إلى جانب عدم ارسال أية قوات إليها، مبينة أن عدم اختراق  هذه الضمانات واستعداد واشنطن لتوثيقها سيكونان الأساس لسحب فتيل الأزمة من حدود “الدونباس”.