دستور 2022.. متى ترى المحكمة والمجلس والهيئة والبلدية النور؟  

يتطلّب تفعيل دستور 2022 بعث محمكة دستورية ومجلس أعلى للقضاء ومطابقة تركيبة هيئة الانتخابات للدستور ذاته وإرساء مجالس بلدية، فضلا عن تفعيل آليات حوكمة العلاقات بين السلط.. أمّا المبادئ والحقوق فتلك مسألة أخرى

عبدالسلام الزبيدي 

مرّت سنتان وتسعة أشهر على دخول دستور 2022 حيّز التنفيذ وفق ما جاء في نص الدستور ذاته. فقد كان الإصدار وتاريخ الدخول حيّز التنفيذ يوم 17 أوت 2022 مع تسميته بدستور 25 جويلية 2022 أي يوم الاستفتاء وفق ما جاء في الفصل 141 منه. وللتذكير فإنّ التوطئة نصّت على فهم رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورؤيته للحظة 25 جويلية 2021، فتلك اللحظة تتجاوز إشكاليات البرلمان ولقاح كورونا وتعطّل سير دواليب الدولة، إنّها بمنطوق الدستور حرفيّا “نابعة من الشّعور العميق بالمسؤوليّة التاريخيّة من تصحيح مسار الثّورة بل ومن تصحيح مسار التّاريخ، وهو ما تمّ يوم 25 جويلية 2021، تاريخ ذكرى إعلان الجمهوريّة”.

يُعدُّ هذا الدستور ثمرة الشعور العميق بالمسؤولية التاريخية ليس لتصحيح مسار الثورة فقط بل وكذلك تصحيح مسار التاريخ. لن نناقش مدى معقولية عبارة “تصحيح مسار التاريخ” وواقعيّتها بل وإمكانها في حدّ ذاته، وسنكتفي بالقيام بعمليّة جرد لما تضمّنته هذه الآلة أو الأداة المسمّاة دستور من آليات لتحقيق الهدف المرجوّ (تصحيح مسار الثورة وتصحيح مسار التاريخ)، والتساؤل عن مدى تجسيدها وتحويل القول المعلن أو الوعد المنطوق إلى مؤسسة تساهم في بلوغ المراد.

بعيدا عن المبادئ العامة واختلاف التأويل

مسألتنا مهمّتان لن نوليهما الاهتمام في هذا المقال. الأولى مدى انسجام المبادئ المعلنة في الدستور مع الواقع العملي، أي أنّنا لن ننظر في مدى التزام مؤسسات الدولة القائمة بمختلف مستوياتها وتشكيلاتها والذوات المشرفة عليها والمسؤولة عنها بما جاء في النص من مبادئ حول الحقوق والحريّات وغيرها. أمّا المسألة الثانية الخارجة عن دائرة الاهتمام فهي كلّ ما يدخل في دائرة تأويل النصوص وما يستتبعها من تباين في الرؤى، وقد بلغ صدى هذا الإشكال أروقة مجلس نواب الشعب (مثلا الطاقة وإنتاجها وعقود والشروط الدستورية للإسناد).

وبذلك تكون المسألة الوحيدة محلّ النظر هي ما تضمّنه الدستور من إجراءات أو ما أعلنه من بعث مؤسسات أو تغيير تركيبتها. فمن المشروع بعد مرور حوالي ثلاث سنوات من الاستفتاء والمصادقة والختم والنشر أن نرسم حدود التطبيق ونعلم حدود المُنْجز، خاصّة أنّ عددا من المسائل لا تحتاج أكثر من الإرادة وتقديم مشروع قانون. والمقصود بهذا القول أنّ دستور 2022 قد محا من طريقه كلّ ما يعيق بعث المؤسسات والهيئات الدستورية إرساءً وتعديلا.

فلا محلّ اليوم لتوازنات التصويت والتنازع حول الولاءات، فيكفي أن يقدّم رئيس الجمهورية مثلا مشروع قانون حول المحكمة الدستورية حتّى يتم التعيين بالصفات (ليس الانتخاب)، ويكفي أن يعلن موعد الانتخابات البلدية حتى تشرع هيئة الانتخابات في الإعداد، ويكفي أن يقترح مشروع قانون حول تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات حتّى تمرّ هذه الهيئة من تركيبة وفق مرسوم إلى صيغتها وصبغتها الدستورية.

وهذا الجرد الأوّلي أو الإحصاء لن يكون مشفوعا بالضرورة بالتحليل أو التفسير إلّا في الحدود الدنيا، فالغاية هي الوقوف على ما لم يتجسّد مؤسساتيا من دستور 2022، أمّا عمليات الشرح والبحث في الدواعي والأسباب والانعكاسات فقد تكون في مناسبات أخرى، وقد تكون محلّ حوار مجتمعي مفتوح. أمّا المسألتان اللتان أشرت إليهما حول المبادئ المعلنة والنصوص المتنازع حول تأويلها فهي تحتاج من ناحية نظرا تفصيليا لكلّ مسألة على حدة، ومن ناحية أخرى تحتاج نظرا يكون فيه الرجوع إلى المختصّين سواء معرفيّا وعلميّا أو منظماتيّا.

من التصريح بالمكاسب إلى رئيس الحكومة ومجلس النواب

“على رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة وأعضائها وأعضاء أيّ مجلس نيابيّ وعلى القضاة أن يصرّحوا بمكاسبهم وفق ما يضبطه القانون. يسري هذا الحكم على أعضاء الهيئات المستقلّة وعلى كلّ من يتولّى وظيفة عليا”. ذلك هو منطوق الفصل عشرين من الدستور، والكلّ يعلم أنّ الهيئة المستقلّة لمكافحة الفساد كانت أوّل هيئة تطالها إجراءات 25 جويلية. وقد شهدنا بعض التذبذب في تلك الفترة عند تعيين المسؤولين حيث وقع فتح بعض المقرّات للقيام بواجب التصريح بالمكاسب، ليختفي هذا الاستحقاق على الأنظار. والثابت أنّه لم يعلن أيّ من المسؤولين المنتخبين في كلّ المستويات أو المعيّنين في السلطة التنفيذية بما في ذلك رؤساء الحكومات والوزراء وكبار موظفي الدولة قيامهم بهذا الواجب الدستوري.

ينصّ الفصل السادس والسبعون على أنّه في صورة التنازع قانونيا حول السّلطة التّرتيبيّة العامّة الموادّ التي لا تدخل في مجال القانون (الأوامر)، فإنّه لرئيس “الجمهوريّة أن يدفع بعدم قبول أيّ مشروع قانون أو أيّ مشروع تعديل يتضمّن تدخّلا في مجال السّلطة الترتيبيّة العامّة. ويعرض رئيس الجمهوريّة المسألة على المحكمة الدّستوريّة للبتّ فيها في أجل أقصاه عشرة أيّام ابتداء من تاريخ بلوغها إليها”. والمسألة الجوهرية هنا ليست وجود المحكمة الإدارية من عدمه وإنّما استحالة تسوية نزاع مفترض بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بسبب غياب آلية التحكيم. أمّا غياب المحكمة الدستورية في حدّ ذاتها فستأتي الإشارة إليه.

وفي إطار تفصيل صلاحيات رئيس الدولة، جاء في الفصل المائة أنّ “رئيس الجمهوريّة يضبط السّياسة العامّة للدّولة ويحدّد اختياراتها الأساسيّة ويعلم بها مجلس نوّاب الشّعب والمجلس الوطنيّ للجهات والأقاليم. وله أن يخاطبهما معا إمّا مباشرة أو عن طريق بيان يوجّه إليهما”. فهذا الفصل تحدّث عن آليتين، الأولى إعلام المجلسين دون أن يحدّدها أيّ مراسلات أو إيفاد ممثلين أو جلسات عمل مشتركة، والثانية ضبطها بالمخاطبة المباشرة أو بيان يوجّه إليهما. والكلّ يعلم أنّه منذ إرساء مجلس النواب لم يحضر رئيس الجمهورية لمجلس النواب (جلسة مشتركة) إلّا لأداء اليمين وإلقاء خطاب التكليف، وذلك يتنزّل ضمن النقطة الثانية من الفصل أمّا النقطة الأولى (الإعلام) فهي في حاجة إلى التفعيل.

وقد جاء في الفصل المائة وواحد أنّ رئيس الجمهوريّة يعيّن رئيس الحكومة، “كما يعيّن بقيّة أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها”. فرئيس الحكومة هو الذي يقترح الوزراء أي أنّه يختار فريقه ليكون التعيين أب الرأي المطابق والمصادقة على الاقتراح من الصلاحيات الحصرية لرئيس الجمهورية. لكن الصورة المنطبعة على رؤساء الحكومات التي تداولت على المنصب منذ إعلان الدستور لا تشي بأنّهم مارسوا هذه الصلاحية (الاقتراح). فمن الصعب التأكّد من أنّ نجلاء بودن أو أحمد الحشاني أو كمال المدوري أو سارة الزنزري الزعفوي كذلك قد اقترحوا أسماء وزراء، وإن فعلوا ذلك فهو أمرٌ يُحسب لهم في مجال الحرص على تطبيق ما جاء في دستور 2022.

محكمة ومجلس هيئة وبلدية في الانتظار

“عند شغور منصب رئيس الجمهوريّة لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تامّ أو لأيّ سبب من الأسباب، يتولّى رئيس المحكمة الدّستوريّة فورا مهامّ رئاسة الدّولة بصفة مؤقّتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما. ويؤدّي القائم بمهامّ رئيس الجمهوريّة اليمين الدّستوريّة أمام مجلس نوّاب الشّعب والمجلس الوطنيّ للجهات والأقاليم مُجْتَمِعَيْن، وإن تعذّر ذلك، فأمام المحكمة الدّستورية”. ذلك ما جاء في الفصل المائة وتسعة. ولا يمكن الحديث عن رئيس المحكمة الدستورية في حالة غياب المحكمة ذاتها.

هذه المحكمة التي عرّفها الفصل المائة والخامس والعشرين وضبطها تركيبتها. فهي “هيئة قضائيّة مستقلّة تتركّب من تسعة أعضاء تتمّ تسميتهم بأمر، ثلثهم الأوّل أقدم رؤساء الدّوائر بمحكمة التّعقيب، والثّلث الثّاني أقدم رؤساء الدّوائر التّعقيبيّة أو الاستشاريّة بالمحكمة الإداريّة، والثّلث الثّالث والأخير أقدم أعضاء محكمة المحاسبات.

ينتخب أعضاء المحكمة الدّستوريّة من بينهم رئيسا لها ونائبا له طبقا لما يضبطه القانون”.

فأعضاؤها يُعيّنون بالصفات ولا بالأسماء، ودخول المحكمة حيّز العمل لا يحتاج إلّا مشروع قانون بإمكان الحكومة التي يرأس مجلس وزرائها رئيس الجمهورية (بنص الدستور) تقديمه. وبذلك يكون إرساؤها أمرا يسيرا لا يتطلّب مقترح قانون من النواب ولا تحالفات للتصويت والانتخاب. لكن الإشكال لا يتوقف عند النص بل يتجاوزه إلى التعيين في المناصب القضائية العليا وهي صلاحية المجلس الأعلى للقضاء المعطّل بسبب غياب التعيينات في تلك المناصب، ممّا أحال الأمر إلى السلطة (الوظيفة) التنفيذية لتقوم بما خوّل الدستور هذا المجلس القضائي القيام به.

فتسمية القضاة تكون بأمر من رئيس الجمهوريّة بناء على ترشيح من المجلس الأعلى للقضاء المعنيّ، وفق الفصل المائة والعشرين. وفي ظل تعطّل أعمال المجلس تتعطلّ هذه الصلاحية الرئاسية، وتتعطلّ عملية إرساء المحكمة الدستورية وتغدو صلاحياتها في حكم المستحيل القيام بها، (الفصل في دستورية مشاريع القوانين، النظر في تنقيح الدستور، القيام بمهمة القائم بمهام رئيس الجمهورية في حالة الشغور النهائي للمنصب).

ومن جهة أخرى، نصّ الفصل المائة والثالث والثلاثون على أنّه “تمـارس المجالس البلديّة والمجالس الجهويّة ومجالس الأقاليم والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلّية المصالح المحلّيــة والجهويّة حسبما يضبطه القانون”. ولسنا في حاجة إلى التذكير بأنّه لا توجد الآن مجالس بلدية، فقد أمر رئيس الجمهورية قيس سعيّد بحلّها بمقتضى مرسوم، ولم يتمّ إلى الآن تحديد موعد للانتخابات. وذلك في انتظار إعادة النظر في النصوص القانونية التي تضمّنتها مجلة الجماعات المحليّة ومراجعة المبادئ التي احتوتها. والخوض في انعكاسات هذا الواقع على عموم الشعب ليس هذا مجاله.

وفي مجال آخر حدّد الفصل المائة والرابع والثلاثون تركيبة الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات في “تسعة أعضاء مستقلّين محايدين من ذوي الكفاءة والنّزاهة، يباشرون مهامّهم لمدّة ستّ سنوات غير قابلة للتّجديد، ويجدّد ثلث أعضائها كلّ سنتين”. لكن واقع الحال يكشف أنّ تركيبتها مختلفة، فقد جاءت وفق مرسوم صدر خلال فترة الإجراءات الاستثنائية، في حين أنّنا ولجنا بحكم الواقع عهد “تصحيح مسار الثّورة وتصحيح مسار التّاريخ”. فالأداة التي سيتمّ بها التصحيح في حاجة إلى التفعيل وفق منطوق النص المرجع في تسيير دواليب الدولة.

لقد طالب سعيّد مرارا وتكرارا رؤساء الحكومات المتتالية بالالتزام بمقتضيات دستور 2022، مشدّدا على أنّه لا رجوع إلى الوراء، ومن ضمانات عدم الرجوع تجسيد المقتضيات الدستورية المحمولة على الوظيفة التنفيذية. فتفعيل الدستور يتطلّب بعث محمكة دستورية ومجلس أعلى للقضاء ومطابقة تركيبة هيئة الانتخابات للدستور ذاته وإرساء مجالس بلدية، فضلا عن تفعيل آليات حوكمة العلاقات بين السلط.. أمّا المبادئ والحقوق فتلك مسألة أخرى.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *