لايف ستايل

دثار التونسيين في البرد…”القشابية” لباس أمازيغي عابر للزمن

فاطمة الأحمر

في محل صغير لا تتجاوز مساحته 4 أمتار في مدينة بنان في ولاية المنستير شرق تونس، اتخذ العم حسن زاوية من المحل وسط أكوام القماش والخيوط لصناعة “القشابية”، وهي ليست مورد رزقه أو حرفته فقط بل عشقه الأبدي الذي تعود عليه وأحبه منذ نعومة أظفاره.


منذ ما يزيد عن 42 عاما يقوم العم حسن بحياكة “القشابية” التونسية التقليدية ذات اللون البني الداكن المصنوعة من الصوف الأبيض بعد تلوينه. “القشابية” عبارة عن معطف تقليدي من الصوف بطربوش كبير وهي في الأصل لباس الرجال في تونس في فصل الشتاء البارد وتعتبر مصدر دفئهم، كما أنها لباس فضفاض سهل الارتداء ولا يعيق الحركة. 


يقف العم حسن وراء آلة الخياطة الحديثة، فقد أصبح يعتمدها بدلا من الطريقة اليدوية البطيئة نظرا لكثرة الطلب على “القشابية » وسرعتها. يشرع في خياطة الأجزاء المكونة للقشابية بعد أن قام مسبقا بتفصيلها حسب مقاسات الزبائن من كل الشرائح العمرية نساء ورجالا.


لباس أمازيغي 
القشابية هي لباس أمازيغي بالأساس وعريق جداً ومتوارث عبر الأجيال، ظهر منذ أكثر من 200 عام وهي لباس سكان شمال أفريقيا وتحديدا دول المغرب العربي: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. 
وحافظت القشابية على مكانتها كزي تقليدي عابر للزمن، وصمدت أمام موجات الحداثة والموضة، وكانت سفيرة تونس في بقية دول العالم للتعريف بالموروث التقليدي الأصيل.

حياكة الصبر الطويل

يقول العم حسن لموقع بوابة تونس، إن مراحل صنع القشابية تكون بداية بـ”تسدية” الصوف بعد جزه من الخرفان وغسله جيدا وتنقيته من كل الشوائب والأوساخ العالقة به وتمشيطه حتى يصبح ناعما بواسطة “القرداش”، ثم يتم تحويله إلى “النساج” ليصبح قماشا بواسطة المنسج التقليدي “النول” ثم صباغته حتى يتحول إلى اللون البني الداكن. وهنا تأتي مرحلة تفصيل القماش حسب طلب زبائنه ثم يخيطه  بأحجام مختلفة.


لم تنته صناعة القشابية عند هذه المراحل، إذ لا بد من إضفاء لمسة نسوية عليها. ففي مرحلة أخرى تقوم النسوة بتطريزها بواسطة خيط سميك أسود اللون يسمى “حرج”، ويؤكد العم حسن أن زوجته هي من تتولى هذه المهمة بعد الانتهاء من أعمال المنزل. بعد ظهر كل يوم تتحول إلى محله فيجلسان سويا وتساعده في عمله وتخيط القشابية ثم تقوم بتنظيفها بالملقط والمقص من كل الشوائب.


تستمر عملية الحياكة قرابة الشهر، إذ تحتاج إلى صبر طويل وحرفية عالية وفي المرحلة الأخيرة منها تتم عملية خياطة القشابية وتطريزها، ويحتاج هذا اللباس التقليدي الأصيل حسب العم حسن إلى قرابة 4 كيلوغرامات من الصوف وكيلوغرامين اثنين من”الطعمة” وهي خيوط صوف طويلة تصنعها النساء بواسطة “المغزل” من الصوف. 

تُحاك القشابية من مواد أساسية بسيطة، وهي أساسا خيوط “القيام” المستخلصة من “الطعمة”، فقديما كان الصوف متوفرا بسبب وجود اليد العاملة المحترفة لتحويله من صوف الأغنام في موسم الجز إلى خيوط طويلة ناعمة بواسطة الآلات اليدوية “القرداش” و”المغزل”، فأغلب النسوة تقريبا كن يصنعن الصوف في أوقات فراغهن وبعد الانتهاء من أعمال المنزل والتنظيف والطبخ. هذا الأمر بات مستحيلا بعد خروج المرأة إلى سوق الشغل.

تجارة مُربحة

يذكر العم حسن أن القشابية تصنع إما من صوف الأغنام أو من وبر الجمال، مشيرا إلى أن سعر القشابية الواحدة يتراوح من 80 دينارا إلى 250 دينارا بينما يصل ثمن القشابية المصنوعة من وبر الإبل إلى 500 دينار.


ويعتبر أن هذه التجارة مربحة جدا وهي مصدر رزقه الوحيد، وقد توارثها من والده ويسعى بدوره إلى توريثها  لابنه وابنته التي أصبحت تمتهنها. يشكو العم حسن عزوف الشباب عن تعلم حرفة حياكة القشابية التي تعتبر تراثا وطنيا وصار الاندثار والنسيان مع مرور الوقت   يهدد هذه الحرفة ، لذلك حرص على تعليمها لأحد أبنائه منذ وقت وقت طويل، فمثلما توارث هذه الحرفة عن والده أصر أن يورثها لابنه كذلك.


ويُرجع سبب العزوف إلى اعتقاد الشباب بأن هذه الحرفة غير مربحة لكن هذا الاعتقاد خاطئ تماما، وفق تقديره، فقد استطاع من خلالها إعالة عائلته وتربية أبنائه وتعليمهم فقط من حياكة القشابية و”البرنوس” و”الكذرون”،  وجميعها ملابس تقليدية من التراث التونسي الأصيل. 
يؤكد العم حسن أن القشابية أصبحت تقدم  هدايا في أعياد الميلاد والمناسبات الرسمية فهي جزء من الهوية التونسية والأصالة.


منافسة آخر صيحات الموضة 

 باتت القشابية تصنع اليوم من الصوف الأبيض وألوان عدة مزخرفة تجذب الشباب، ويهتم التونسيون أيضا بترويجها خارج البلاد لجذب الأنظار العالمية إليها .
هناك تصاميم مختلفة من القشابية وبألوان عدة. وباتت تطرز حتى بخيوط الحرير الملون فبعد أن كانت لباس سكان الأرياف والقرى وخاصة الفقراء منهم ، أصبحت لباس سكان المدن والأثرياء.

وتحولت حياكة القشابية من الصوف إلى القماش القطني باعتباره كذلك أخف وزنا من الصوف الثقيل. ولم يعد ارتداؤها حكرا على الرجال بل تم تحسينها وتطويرها وأصبحت لباسا للنساء تلبس فوق الجينز. في السابق اقترن ارتداء القشابية ببساطة مستوى العيش، لكن أصبح الإقبال عليها اليوم متزايدا من قبل أصحاب الطبقة الميسورة والشباب.


وتمكنت من المحافظة على مكانتها لدى مختلف الفئات الاجتماعية، فارضة نفسها أمام مختلف الملابس الشتوية الفاخرة  المعروضة في الأسواق المحلية بعد أن جمعت بين اللمسة العصرية والطابع التقليدي التونسي، وباتت تُصنع حتى من الكشمير عوضا عن الصوف.

وفي مثل هذا الوقت من فصل الشتاء حين يكون الطقس شديد البرودة وتنخفض درجات الحرارة بشدة، تجد الكثير من الرجال كهولا وشبابا متدثرين بالقشابية التي تقي كامل أجسامهم  البرد وتوفر لهم الدفء.