محمد بشير ساسي
لم يكن ينقص المجتمع الإنساني المثقل بالحروب والأزمات والمعضلات المتراكمة إلّا عضو مجلس النواب الهولندي والسياسي اليميني المتطرّف خيرت فيلدرز، الذي حرّك كعادته عبر تصريح مستفزّ المياه الراكدة لظاهرة “الإسلاموفوبيا” في أوروبا والعالم.
فيلدرز -وهو رئيس حزب “من أجل الحرية” اليميني المتطرّف المعادي للإسلام والمهاجرين- اختار هذه المرة السّخرية مما وصفه بتزايد المسلمين في هولندا، مصرّحا بأنّ مشاهدتهم وهم يؤدّون الصلاة في الطرقات تعبّر عن تجريد البلد من هويته.
زاوية مظلمة
وليست هذه المرة الأولى التي يتهجّم فيها النائب الهولندي على المسلمين، حيث عُرف طوال سنوات -وهو يعيش تحت حماية الشرطة منذ عام 2004- باستخدام حسابه على تويتر منصّة لبثّ رسائل الكراهية ضدّهم في سعيه إلى طردهم من البلاد.
وقد سبق له طرح مسابقة كاريكاتورية مسيئة للنّبي الكريم محمّد عليه الصلاة والسلام، داعيا الناس إلى إرسال رسومهم بهذا الشأن، لكنّه اضطرّ في ما بعد إلى إلغائها إثر مظاهرات وتهديدات ضدّه بالقتل.
سياسيا، كان حزب فيلدرز قد تعهّد في برنامجه الانتخابي للأعوام 2021-2025، بإنشاء “وزارة التطهير من الإسلام”، كما أكّد تعريف الدين الإسلامي بكونه “أيديولوجية شمولية”، وكذلك حظر المساجد والمدارس الإسلامية ومنع انتشار الفكر الإسلامي عن طريق القرآن الكريم.
علاوة على أنّ برنامج حزبه الانتخابي تضمّن تطبيق حظر ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، وإيقاف طلبات اللجوء وإغلاق مراكز اللّاجئين.
ويعتقد باحثون أنّ صوت فيلدرز ليس نشازا أو ظاهرة سياسية عرضية، بل إنّ عداءه للديانة الإسلامية لا يتصادم مع السائد من القيم الهولندية، ويمثّل زوايا مظلمة أصيلة من تاريخ البلاد.وتعتبر الأستاذة في الدّراسات الهولندية والفلامنغية بجامعة متشيغن الأميركية إنيماري تويبوخ أنّ فكرة التسامح الهولندي، هو مجرّد صورة نمطيّة سادت الغرب عن هولندا دون أن يكون لها تجسيد في الواقع وأنّ فيلدرز لا يمثّل حركة ظهرت فجأة لتتقاطع مع ثقافة سائدة في البلاد.
إنتاج الخوف
في البداية، من الضروري فهم “الإسلاموفوبيا” وهي كلمة مستحدثة تتكوّن من شقّين: الإسلام وفوبيا، و”فوبيا” هي لاحقة يُقصد بها الخوف والرهاب غير العقلاني من شيء يتجاوز خطره الفعلي المفترض.
وقد عرف باحث الدين المقارن السويدي ماتياس غارديل المصطلح على أنّه “الإنتاج الاجتماعي للخوف والتحامل على الإسلام والمسلمين، بما في ذلك الأفعال الرامية إلى مهاجمة أشخاص أو التمييز ضدّهم أو عزلهم بناءً على افتراضات ارتباطهم بالإسلام والمسلمين.
يُرجع مؤرّخو الحقبة الاستعمارية أول استعمال لمفهوم الإسلاموفوبيا إلى بدايات القرن العشرين، فقد استعمل علماء اجتماع فرنسيون هذا المفهوم لوصف رفض جزء من الإداريين الفرنسيين ومعاداتهم للمجتمعات المسلمة التي كانوا يتولون إدارة شؤونها في زمن الاحتلال، ويُفترض أن يتعايشوا معها ويندمجوا في أنساقها الاجتماعية، نظرا إلى ما تُمليه المهام الإدارية والسياسية المسندة إليهم.
والواقع أنَّ ذلك الرفض وتلك الكراهية مصدرهما عنصري بالدرجة الأولى، ثم ثقافي ونفسي مردُّه إلى الخطاب الاستعماري نفسه الجاهل بالإسلام والمخوف منه ومن المسلمين، بحكم سابقِ ريادةِ الحضارة العربية الإسلامية للعالم في القرون الوسطى.
ازدهار “الإسلاموفوبيا”
يرى جزء آخر من علماء الاجتماع واللسانيات أنّ الإسلاموفوبيا ازدهرت باعتبارها مفهوما مع قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، إذ استُخدم هذا المفهوم ورُوّج له من قبل مرجعيات دينية شيعية محافظة لفرضِ ارتداءِ الحجاب. فوُصم بمعاداة الإسلام أو الإسلاموفوبيا كلّ من يُعارض فرض الحجاب في الأماكن العامة، كما وُصمت به النساء الرافضات ارتداء الحجاب لدوافع ثقافية أو اجتماعية.
وثمّة من ربط ازدهار مفهوم الإسلاموفوبيا في مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة وتحديدا إثر هجمات 11 سبتمبر 2001 التي وقعت في الولايات المتحدة وتبنّاها تنظيم القاعدة، وأحدثت تحوّلا نوعيا في واقع العلاقات الدولية واحتُلّ إثرها بلدان إسلاميان هما العراق وأفغانستان.
وقد أعاد ذلك طرح إشكالية المواجهة بين الإسلام والغرب التي بشَّر بها عددٌ من المفكّرين الغربيين المتصهينين منذ نهاية الحرب الباردة، إذ روّجوا لبروز الإسلام باعتباره عدوا جديدا للغرب بدلا عن الشيوعية ممثّلة في الاتّحاد السوفييتي، وروَّج بعضهم لفكرة انتهاء “الخطر الأحمر” الشيوعي وبروز “الخطر الأخضر” الإسلامي.
مع ظهور الإسلاموفوبيا نما في كثير من الأقطار الغربية، خطابٌ سياسي يميني متطرّف يسعى بشكل حثيث إلى استثمارِ الوضع الدولي المترتّب على هجمات 11 سبتمبر وما اتّسم به من خطابٍ إعلامي معادٍ للإسلام، والواقع الاجتماعي في الغرب وما يُميّزه من مشاكل الهوية والاندماج خاصة بالنسبة إلى المسلمين والعرب.
وفي ضوء هذه العوامل، نشأ شعورٌ عنصري مناوئ للمسلمين والعرب وللإسلام، أذكاهُ الجهل المستحكم بالإسلام لدى فئات واسعة من المجتمعات الغربية، وخطابٌ محرّض لدى بعض وسائل الإعلام وآخر متهافت وجاهل بالإسلام لدى أكثر المنابر الإعلامية اعتدالا.
وقد سعت الأحزاب اليمينية المتشدّدة و”الشعبوية” إلى استثمار المناخ اللاحق على هجمات 11 سبتمبر في تكريس الخوف من الإسلام والمسلمين وتوظيفه لغايات انتخابية، فظهرت شعارات منها أسلمة أوروبا والتهديد الإسلامي الخفي، وغير ذلك من الشعارات التي وفّرت لليمين المتطرّف خطابا مسموعا عوضه عن ضعف خطابه السياسي ومحدودية البدائل الاقتصادية والاجتماعية التي يُقدّمها.
وأجّجت الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في 2007 موجة الكراهية ضدّ المسلمين، وبات اليمين المتطرّف يُروّج لفكرة ظالمة مفادها أنّ الهجرات القادمة من شمال إفريقيا والشرق الأوسط هي سبب الأزمة، وأنّ هؤلاء المهاجرين باتوا يُزاحمون الأوروبيين الأصليين في الحصول على فرص ويُكلفون الميزانية العمومية نفقاتٍ باهظة، وفي الوقت نفسه يبنون مستقبلهم في بلدانهم الأصلية عبر استثمار ما يجنونه في المهجر.
ومع موجات اللجوء الكبرى القادمة من عدّة دول عربية، ازدهر خطاب الكراهية من جديد، وكشفت قراراتُ عددٍ من الدول بإغلاق حدودها مع اليونان ودول البلقان نزعة دفينة للشعور القومي الذي سبق له أن جرَّ على أوروبا ويلاتٍ لا تُحصى.
سمّ الكراهية
أمام هذا المشهد القاتم، دخلت الأمم المتّحدة على الخط ودعت على لسان أمينها العام أنطونيو غوتيريش إلى العمل على القضاء على ما وصفه ب”سمّ” الكراهية ضدّ المسلمين، مؤكّدا أنّها ليست حدثا منعزلا، بل هي جزء أصيل من عودة القومية الإثنية للظهور وأيديولوجيات النازيين الجدد الذين يتشدّقون بتفوّق العرق الأبيض، والعنف الذي يستهدف الشرائح السكانية الأضعف.
وفي محاولة منها لتهدئة الخواطر اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتّحدة قرارا بالإجماع قدّمته باكستان بالنيابة عن منظّمة التعاون الإسلامي باعتبار يوم 15 مارس من كل عام، يوما عالميا لمكافحة الإسلاموفوبيا، وهو اليوم الذي يوافق الاعتداء على مسجدين في مدينة كرايست تشيرتش بنيوزيلندا عام 2019، والذي أدى إلى مقتل 51 شخصا.وتناغما مع هذا القرار الأممي، وافقت منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والثقافة والفنون “اليونسكو”، على إدراج مصطلح “الإسلاموفوبيا” في مشروع قرارها بشأن التمييز والعنصرية، استجابة لمبادرة تركية رغم معارضة دول عديدة في المجلس التنفيذي للمنظمة الأممية.
لا شكّ أنّ ظاهرة “الإسلاموفوبيا” لن يتوقّف نزيفها بين يوم وليلة، ولا بقرار من الأمم المتّحدة أو بمبادرة من اليونسكو ، فالواقع المعاش والدراسات المستفيضة تكشف أنّ الظاهرة في تصاعد مستمر ومفتعل.
وتشارك في صناعة الإسلاموفوبيا مراكز أبحاث وسياسة واتّصالات ومؤسّسات إعلامية تنتج هذا الخوف وتلفّق وتنشر هذه الأخبار بدقّة. وفي هذه الصناعة يعدّ كلّ من المستهلكين والمستخدمين النهائيين ضحايا.
وأول ضحايا الإسلاموفوبيا ليسوا المسلمين -كما يُعتقد- بل الفئات المحرومة من رسالة الإسلام ولا تعرف عنه شيئا، ومن ثم يسهل وقوعها فريسة للتعصّب والخوف.
أرقام صادمة
ورغم الوزن المؤثّر للمسلمين داخل المجتمعات الغربية، فإنّهم يواجهون جملة من التحدّيات يأتي في مقدّمتها التمييز والعنصرية.
وقد كشف استطلاع للرأي أجرته وكالة الاتّحاد الأوروبي للحقوق الأساسية أنّ قرابة 92% من المسلمين عانوا من التمييز العنصري بأشكاله المختلفة، 53% منهم بسبب أسمائهم، في حين تعرّضت 94% من النساء إلى مضايقات عنصرية بسبب الحجاب.
كما أنّ المعضلة المعقّدة تدور في فلك أرقام صادمة ومقلقة رصدتها تنسيقية محاربة الإسلاموفوبيا في أوروبا ضمن تقريرها السنوي، الذي يتعلّق بانتشار ظاهرة كراهية الإسلام في مختلف الدول الأوروبية عامة وفرنسا خاصة.
وسجّلت التنسيقية 467 حادثة تتعلّق بالعنصرية، و128 حادثة تتعلّق بالكراهية والاستفزاز، و71 حادثة تتعلّق بالإهانات، و59 حادثة تتعلّق بالتحرش الأخلاقي، و44 حادثة تتعلّق بالتشهير، و27 حادثة لها صلة بالاعتداءات الجسدية، و33 حادثة مرتبطة بقانون مكافحة الانفصالية.
وفي الولايات المتّحدة الأمريكية يشير باحثون إلى أنّه بقدر ما كان من المروّع توثيق ظاهرة الإسلاموفوبيا المتفشّية بالولايات المتّحدة منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، كانت هناك توقّعات حول إمكانية تضاؤل بعض الصور النمطية العدوانية تجاه المجتمع المسلم بمرور الوقت، لكن هذا لم يحدث.
ومن الجلي أنّ ظاهرة الإسلاموفوبيا آخذة في الارتفاع، حيث زاد تفشّيها في المجتمع الأمريكي.
وتظهر عدد من الدراسات الحديثة، أنّ الإسلاموفوبيا الأمريكية ترسّخت وتطبّعت وانتشرت. ففي ماي 2022، أعلن مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (كير) عن زيادة بنسبة 9% في عدد شكاوى الحقوق المدنية التي تلقّاها من المسلمين في الولايات المتّحدة منذ عام 2020.
وتنبّهت العديد من الأصوات داخل المجتمع الحقوقي إلى أنّ جماعات الإسلاموفوبيا بالولايات المتّحدة تتلقّى تمويلا كبيرا. ففي جوان 2022، وجد “كير” أنّه في الفترة ما بين 2017-2019، تمّ ضخّ ما يقارب 105.9 مليون دولار لدى 26 مجموعة للإسلاموفوبيا لنشر معلومات مضلّلة ونظريات المؤامرة حول المسلمين والإسلام.
كما يُظهر بحث جديد لفريق بجامعة رايس أنّ المسلمين في أمريكا أكثر عرضةً 5 مرات لمضايقات الشرطة، بسبب دينهم مقارنة بالديانات الأخرى. ويخشى العديد من الأمريكيين المسلمين مراقبة الشرطة التي تفرضها الدولة من خلال إجراءات مثل التتبّع عبر الإنترنت، أمن المطارات، الإيقافات الروتينية، المراقبة داخل الأماكن الدينية.
ويُرجع التحدّيات التي تواجه المسلمين والعرب إلى أزمة الهوية التي تعيشها المجتمعات الغربية وحالة التصارع الداخلي، إذ نتج عن ذلك صعود اليمين واليمين المتطرّف وأحيانا يؤدّي ذلك الوضع إلى ظهور حكومات فاشية في أوروبا.
وعن مستقبل المسلمين في أمريكا وأوروبا في ظل الضغوط الحالية، يؤكّد مراقبون أنّ المسلمين قوة ناشئة كبيرة في الولايات المتّحدة، والإسلام هو أسرع الأديان انتشارا في أمريكا وأوروبا، ومن حيث الكثافة والنمو السكاني لا خوف عليهم، ولكن الخوف يكون في حال غابت بعض القيادات الإستراتيجية في توجيه بوصلة المسلمين في أمريكا وأوروبا، حول كيفية التعاطي مع تحديات صعود اليمين المتطرّف وبناء تحالفات مع القوى الليبرالية وتأجيل بعض الملفات الساخنة وتقديم الأهم على المهم.
وفي هذا الإطار، يلفت علي عزّت بيغوفيتش الرئيس البوسني الراحل والمفكّر والفيلسوف الإسلامي في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”، إلى أنّ عداء الغرب الحالي للإسلام ليس مجرد امتداد للعداء التقليدي والصدام الحضاري -الّذي وصل إلى صراع عسكري بين الإسلام والغرب منذ الحملات الصليبية حتى حروب الاستقلال- وإنما يرجع هذا العداء بصفة خاصّة إلى تجربة الغرب التاريخية مع الدين وإلى عجزه عن فهم طبيعة الإسلام المتميّزة.
وأمام هذا المشهد المضطرب بفعل هواجس العداء والعنصرية، يطرح مراقبون السؤال الحارق الذي يحرج الغرب الليبرالي: إذا سقطت أرض الحرية والتسامح في قبضة اليمين المتطرّف، فأيّ مصير ينتظر علاقة الإسلام بالغرب وما تتفرّع عنه من إشكاليات عدّة؟