فوزي الصدقاوي
كانت فرصا كثيرة للوفاق ومحطات غير قليلة للتسويّة، فوّتها نظام بشار الأسد مخيّرا التضحية بأمن سوريّة وسلامة شعبها ووحدة أرضها مقابل إثبات أنّ نظامه أقوى من أن تهزّه بعض الاحتجاجات أو أن ينحني لمطالب الشارع، فقد ظلّ متأهّبا للردع ومستنفرا لدفع ما يستوجب من كلفة. وقد عمل عزمي بشارة من خلال ما رصده من تحوّلات للثورة السورية(1)، على أن يُبرهن أنّ العمل المسلح كان خيارا دفع نحوه النظام، الذي كان منذ أوّل الثورة، يستبطن لـ”الأزمة” منهجا أمنيّا في المعالجة، على الطريقة نفسها التي اختبرها في حماة، إذ ظلّ يدفع المحتجين السوريين إلى حمل السلاح عبر التصعيد وبمزيد من التصعيد، إلى أن استنفد الثوّار جميع احتمالات بلوغ مفاهمات تحقن الدماء، فيما لم يدّخر النظام في كل تلك المحطات وسيلة قمع إلّا استخدمها.
لم تتحوّل الثورة السورية إلى كفاح مسلّح بصورة فعليّة ومنظمة وإستراتيجية إلا في جانفي 2012. لكن العمل المسلح مع هجوم المنتسبين إلى الثورة على المراكز الأمنية في مدينة جسر الشغور في 10 جوان 2011، كان تأكيدا أنّه بلغ مستوى من التنظيم والتفكير المنهجيّ، وأمكن أن تكون له وسائل وأهداف ذات طبيعة شبه عسكريّة.
لقد كان عدد من قُـتلوا منذ بداية الثورة وحتى 10 جوان 2011، وسجّلتهم الإحصائيات بصورة موثّقة، قد بلغ 2355 مواطنا سوريا من بينهم 100 طفل، و76 امرأة، و91 مواطنا قضوا تحت التعذيب الوحشي، وكان من بين القتلى أيضا 184 جنديّا منشقا تمّ إعدام أغلبهم في الميدان.
ورغم أنّ المقدّم المنشق حسين هرموش أعلن بعد 9 جوان 2011، تشكيل لواء الضبّاط الأحرار فإنّ الثورة لم تتحوّل عن طبيعتها السلمية، لكون المهمّة التي أُنيطت بعهدة هذا اللواء آنذاك هي الدفاع عن المدينة في مواجهة الجيش النظامي. وكان من تداعيات هذا الإعلان أنّ اشتِدَاد المواجهات بين الجيش النظامي والضبّاط الأحرار، سبّب آثارا تدميرية فنزح عن المدينة نحو عشرة آلاف مواطن باتجاه تركيا، حيث أقاموا على حدودها في مخيّمات اللاجئين.
ومع تعدّد الانشقاقات على الجيش السوري النظامي، أعلن العقيد رياض الأسعد في 29 جويلية 2011 انشقاقه عن الجيش السوري وتأسيسه الجيش السوري الحر، موجّها تعليماته للكتائب التابعة لقيادته والمنتشرة في أغلب المدن السوريّة، أن تتولّى مهمة حماية التظاهرات السلميّة والتصدي للاقتحامات الأمنيّة والعمليات العسكرية. وقد تزامن ذلك مع تطوّر في وعي الثوّار لحاجة الثورة إلى واجهة عسكريّة تعبّئُ العمل المسلح وتنظّمه وتأطّره، ليس فقط لمنح الثورة جسما قويا رادعا وإنّما لكون العمل المسلح بات مطلبا، لكن دون أن يلغي السمة المدنيّة التي ميّزت الحراك الثوري منذ بدايته. ودون أن يُعطّل هذا المطلب أيضا النقاش السياسي المـكثف الذي كان يشغل القوى السياسية والمثقفين.
أهميّة الإعلان عن الجيش السوري الحرّ، رغما عن تمثيليّـته المحدودة للثورة، كانت تكمن في أنّ الثورة السورية، بات لها إطارٌ مؤسسيٌّ، منسلٌ من الدولة ومؤسساتها، وبات يمكن الانضواء تحت هذا الإطار، بما يمنحها شرعيّة إضافية، وهو ما دفع الكتائب المسلحة إلى المسارعة في الإعلان عن إنضمامها إلى الجيش الحرّ.
ورغم أنّ إعلان الكتائب المسلحة لم يكن يُرتّب التزامات تنظيمية عليها، فإنّه كان -برأي عزمي بشارة- يؤكّد وحدة الانتماء إلى الثورة، بوصفها مشروعا وطنيا، يعمل على استعادة الدولة من أجل سوريّة موحّدة. وظل أداء الكتائب يعتمد أسلوب حرب العصابات متحصّنا بحاضنة اجتماعيّة، كما هو الحال في مدينة حماة وريفها وحمص وإدلب وريف دمشق وريف حلب الشمالي وبعض أحياء دير الزور ودرعا. أمّا الجيش السوري الحرّ فظلّ إلى سنة 2012 يعمل من دون أن تكون لدى قادته، كما يبدو، أيّ إستراتيجية عسكريّة.
لكن خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2012، استطاعت المجالس العسكريّة التي تشكّلت أن تتغلّب على انقسام الكتائب وتطوّر أعمال التنسيق بينها، وتجعل من تمثيل العمل العسكري، بين أيدي قادة المجالس، الذين صارت تعود إليهم، قيادة الجيش السوري الحر وسلطته. لكن خلافات القادة العسكريين الشخصية، من جهة وخلافات العسكريين مع المعارضة السياسية، حكمت باستمرار حالة التشرذم في صفوف العسكريين، حتى بعد الإعلان عن تشكيل هيئة الأركان المشتركة في ديسمبر 2012. وقد زاد في هذا الانقسام إصرار الدول الداعمة للمعارضة على أن يظل إمداد الدعم عبر مسالكها الخاصة. أمّا العمل المدنيّ للتنسيقيات فتميّز بتنظيم التظاهرات والإغاثة والإعلام بدرجة عالية من التنظيم والجدية.
ثم إنّ حلب تجاوبت بأغلبيّة أسواقها مع الإضراب الذي أُعلن في دمشق بداية من جوان 2012، وكان ذلك احتجاجا على مجازر النظام المتكررة، مثل مجزرة الحولة في حمص، وحي القبير في حماة. وفي 22 جويلية 2012، أعلن العقيد عبد الجبار العقيدي قائد المجلس العسكري في المدينة، بدء معركة «تحرير حلب» ودعى الكتائب المسلحة في الريف إلى التوجه نحو المدينة لتحريرها. وهو ما أدى إلى سيطرة الكتائب على عدة أحياء من مدينة حلب. وقد أعلن النظام النفير والتعبئة لاستعادة حلب، بعد أن أطلق على حملته تلك اسم “أمّ المعارك”.
وقد دخلت الطائرات الحربية، أول مرة في المعركة ضد الثوّار، بعد أن انسحبت قوات النظام المتمركزة في منطقة جبل الزاوية على الحدود السورية-التركية، لمساندة القوات الموجودة في حلب. وكان قصف حلب بالطائرات الحربية قد تسبّب في نزوح الأهالي بأعداد كبيرة إلى مخيمات اللاجئين في تركيا، وإلى قرى الريف الحلبي الخارجة على سيطرة النظام، ويُلاحظ بشارة أنّ اقتحامات الجيش الحرّ للمدن جلبت لها قصفا هائلا ومدمّرا. فهذه الإستراتيجية زادت في خراب المدن المحررة. ووفق وصفه، فإنّ الجيش الحرّ لم يُحرر المدن من قوات النظام فقط، بل “حررها”من أهلها أيضا.
أما مدن ريف دمشق وبلداتها فكانت منذ الأشهر الأولى من الثورة أهم مناطق الاحتجاج السلمي في الثورة السورية، لكن حين بدأ مسلحون من بين الأهالي والمنشقين على الجيش في دوما وحرستا، يهاجمون الحواجز الأمنية والعسكرية، وبعد واقعة الزبداني في جانفي 2012 وعدم تمكّن الجيش السوري من دخول المدينة، قامت القوات العسكرية بالاشتراك مع قوات الحرس الجمهوري أول مرة بمهاجمة مدينتي دوما والزبداني، مخلّفة أضرارا كبيرة، وقد أدت هذه النتائج إلى انتقال العمل المسلح إلى البلدات الأخرى في الغوطة الشرقية.
وفي نهاية أكتوبر 2012 كانت أغلب التشكيلات المسلحة قد أنشأت “المجلس العسكري الثوري في دمشق وريفها” وهو مؤلف من قيادة المجلس وخمسة مجالس عسكرية ثورية هي: مجلس مدينة دمشق ومجلس الغوطة الشرقية ومجلس الغوطة الغربية، المجلس العسكري الثوري للريف الشمالي الغربي لدمشق، المجلس العسكري الثوري للقلمون. وحسب عزمي بشارة، فإنّ التاريخ النضالي لهذه المناطق، وانتماء غالب ثوّار ريف دمشق إلى المناطق ذاتها، ساهما في بلوغ درجة عالية من التنظيم والتنسيق بين الكتائب والفصائل المسلحة. لكن يعتبر بشارة مع ذلك، أنّ احتضان مدن ريف دمشق للمقاتلين والمسلحين، عرّض تلك المدن إلى دمار هائل، إذ بلغت نسبة تدمير حرستا 80% من المباني. وتم تدمير حيّيْن بصورة كاملة في دوما وتضررت أحياء أخرى بصورة بالغة، أما في داريا فتم تهجير سكانها بعد تدمير مداخلها وأغلب مبانيها، لتصبح خالية من السكان.
وحين بدأت المواجهات العسكرية في منتصف سبتمبر 2012 التي سماها الثوّار “معركة المعابر الحدودية” واستطاعت كتائب ثورية السيطرة على مواقع متقدمة، فانسحبت على إثرها قوات الجيش السوري للتمركز في المقرات الأمنية والعسكرية على مسافة (55 كيلومترا غرب مدينة الرقة) لكن التقدم بصورة متتابعة للفصائل المسلحة، حقّق سيطرة كاملة على محافظة الرقة في مارس 2013، لتصبح محافظة الرقة التي تمسح نحو 10.6% من مساحة سورية، وعدد سكانها 921 ألف نسمة، خارج سلطة النظام بشكل شبه كامل،
لقد ساعد تحرير الثوار لمحافظة الرقة على خلق تواصل جغرافي بين المناطق المحررة في الشمال والشرق، التي كانت معزولة تحت حصار قوات النظام، ومتباعدة عن بعضها بعضا. وهو ما يسّر للثوّار حرية نقل المقاتلين والأسلحة إلى المنطقة الشرقية، خاصة مدينة دير الزور، والسيطرة على المعابر الحدودية مع العراق. وكان من ثمار معركة الرقة -في تقدير عزمي بشارة- أنّها ساهمت بصورة غير مسبوقة في الدفع إلى التنظيم والتخطيط والتنسيق الميداني بين قوى الثورة المسلّحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- د. عزمي بشارة : سوريّة درب الآلام نحو الحريّة، محاولة في التاريخ الراهن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.
أضف تعليقا