عرب

خاشقجي … جريمة القنصلية ما تزال برسم العدالة المفقودة والجثة المغيبة

لم يعرف التاريخ المعاصر جريمة اغتيال سياسي أشد بشاعة ودموية من المصير الذي لقيه الصحفي السعودي المغدور جمال خاشقجي.

معتقلو 25 جويلية

درجت أغلب الحكومات والأنظمة على توظيف الاغتيال السياسي للتخلص من الخصوم والمعارضين، عبر طرق تتسم باستعمال “أدوات نظيفة” لتنفيذ تلك المهام القذرة، والنيل من الضحية بأسرع الطرق وأقلها تكلفة وإثارة للشبهات.

برغم هذا المنطق الأمني الذي يعدّ أحد أساسيات عمل أجهزة الاستخبارات إلا أن جريمة تصفية خاشقجي اكتست نزعة تنكيل سادية، بلغت حدّ تقطيع جثته إربا، ما يكشف بوضوح عن مشاعر الحقد والعدوانية التي تمكنت من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، المتهم الرئيسي بالمسؤولية عن الجريمة، ودفعته للمضي في الانتقام من خصمه حتى وهو جثة هامدة.

الإرث الدموي

لا تبدو ثقافة التمثيل بالخصم غريبة عن بن سلمان، وهو الذي تشرّبها عن أجداده، فمجرد إلقاء نظرة فاحصة على تاريخ الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود كفيل باكتشاف الكم الرهيب من المجازر التي اقترفها في مسار توحيد الجزيرة تحت حكمه بداية القرن الماضي، فضلا عن نماذج أخرى من الفظائع كان أكثرها وقعا على النفوس جريمة تصفية المعارض ناصر السعيد بإلقائه حيا من الطائرة بعد اختطافه من بيروت.

حمل بن سلمان هذا “الإرث الدموي العتيد” في مساعيه للانفراد بالسلطة في السعودية، وتحصين سطوته ونفوذه بعد إزاحة عمه محمد بن نايف من ولاية العهد، وتصفية المعارضين داخل البلاط الملكي والأسرة الحاكمة، عبر ما عرف بواقعة الريتز كارلتون، لتبدأ بعدها عميلة ملاحقة الأصوات المزعجة من الخارجين عن النظام، الذين كان منهم جمال خاشقجي.

تحول قلم خاشقجي ومقالاته اللاذعة في صحيفة واشنطن بوست، وإطلالاته الإعلامية التي فضحت هشاشة النظام السعودي من الداخل، وصراعات أجنحته وفشل مغامراته الإقليمية، خاصة في اليمن التي أضحت هزيمة عسكرية لا تغطيها الغارات الجوية على المدنيين إلى صداع يؤرق ولي العهد الجديد.

 فشلت كل محاولات استمالة خاشقجي وإغرائه، ما زاد من حدة نقمة بن سلمان عليه، فكان قرار التخلص منه.

الاستدراج إلى إسطنبول

أشرف سعود القحطاني مساعد ولي العهد السعودي ومستشاره السابق على وضع مخطط الاغتيال وتنفيذ العملية بما فيها اختيار الفريق المكلف بالاغتيال. وتشير تسريبات استخباراتية إلى أن الخطة كانت تقوم بداية على تصفية خاشقجي بالولايات المتحدة، قبل أن يقع التخلي عن هذا الخيار لاعتبارات سياسية وقانونية، باعتبار أن تنفيذ الجريمة على الأراضي الأمريكية قد يزيد من تعقيد المسألة وتوتير العلاقات بين الرياض وإدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وإحراجه داخليا ودوليا.

استقر رأي الفريق المسؤول على استدراج الصحفي المغدور خارج الولايات المتحدة، حيث اختيار إسطنبول لعوامل أهمها اكتشاف المخابرات السعودية للعلاقة العاطفية الوطيدة التي تجمع خاشقجي بسيدة تركية تدعى خديجة جنكيز ونيته الارتباط بها.

قرر السعوديون تسريع استدراج ضحيتهم إلى تركيا لاعتبارات عدة، أبرزها القرب الجغرافي من الرياض، وسهولة تنقل فريق التنفيذ، والوجود المؤثر للمخابرات السعودية، فضلا عن عدم قدرة القانون التركي على تعقب المتهمين في صورة انكشاف الأمر على عكس القوانين الفدرالية الامريكية الصارمة.

سربت المخابرات السعودية وفق بعض الروايات المتداولة نصائح إلى خاشقجي عبر دائرة الأصدقاء والمحيطين به بمغادرة واشنطن لبعض الوقت، تحسبا من محاولات استهدافه من الرياض بتواطؤ من إدارة ترامب، ما دفعه للسفر الى إسطنبول لترتيب عقد قرانه من السيدة جنكيز والإقامة هناك.

وتشير تسريبات استخباراتية إلى أن السفارة السعودية في الولايات المتحدة أحالت مطلب خاشقجي بالحصول على وثيقة متعلقة بحالة المدنية إلى قنصليتها في تركيا، تحت ادعاء أنها “مرجع النظر والاختصاص”، باعتبار أن الوثيقة المطلوبة ستقدم إلى السلطات التركية بهدف إتمام إجراءات زواجه.

 كوماندوز الإعدام

بدأ العد التنازلي للجريمة بعيد وصول الصحفي المعارض إلى إسطنبول بالتزامن مع توجهه إلى مقر القنصلية لطلب وثيقة تفيد بكونه مطلقا وغير مرتبط وفق سجلات القيد المدني السعودي، حيث كانت اللمسات الأخيرة على مخطط التنفيذ، وعلى استعدادات فريق الاغتيال تستكمل في الرياض قبل سفره على متن طائرة خاصة.

استمرت زيارة الصحفي المغدور الأولى إلى القنصلية قرابة 45 دقيقة وسارت يشكل سلس، وعومل خلالها بطريقة عادية رغم تخوفه من موقف سلطات بلاده تجاهه.

طلب من خاشقجي خلال زيارته الأولى يوم 28 سبتمبر/أيلول 2018 العودة مجددا في الثاني من أكتوبر لاستلام الوثيقة، بحسب الموعد الذي حدد سلفا لوصول كوماندوس الاغتيال في اليوم نفسه.

وتكشف تسجيلات هاتفية نشرتها وسائل إعلام تركية يرجح أن مصدرها المخابرات التركية عن اتصالات مكثفة جرت في اليوم ذاته بين القنصل السعودي في إسطنبول محمد العتيبي وجهات أمنية عليا في الرياض، وكذلك مستشار محمد بن سلمان لوضع الترتيبات الخاصة بالعملية وتنقل كوماندوز الاغتيال.

ونقل شهود ومتعاملون أتراك مع القنصلية عن قيام العتيبي بحجز أجنحة فندقية فارهة بفندق الموفنبيك لإقامة عدد من السعوديين القادمين لمهام خاصة بالقنصلية.

تكوّن فريق الاغتيال من 15 فردا من عناصر الحرس الملكي السعودي والفريق الأمني الخاص بولي العهد محمد بن سلمان وضباط المخابرات والطب الشرعي، وكشفت التحقيقات عن هويات فريق التنفيذ الذي كان من بين أفراده ماهر مطرب، ومشعل البستاني، ووليد الشهري، وثائر الحربي، ومصطفى المدني، والدكتور صلاح الطبيقي اختصاصي الطب الشرعي، الذي أشرف على تقطيع الجثة، وأطلقت عليه وسائل الاعلام التركية والعالمية تسمية “جزار القنصلية”.

جرى الاتصال بخاشقجي من موظفي السفارة لإعلامه بالموعد ظهر يوم 2 أكتوبر / تشرين الأول 2018، بينما تواجد 10 عناصر من فريق التنفيذ منذ العاشرة صباحا.

اختفاء خاشقجي

شوهد خاشقجي للمرة الأخيرة في حدود الساعة الواحدة والربع بحسب تسجيلات كاميرات المراقبة في محيط القنصلية برفقة خديجة جنكيز، حيث سلمها هاتفين جوالين كان يحملهما، مع توصية بالاتصال بمستشار الرئيس التركي ياسين أقطاي في حال حدوث أي طارئ.

انتظرت خديجة أكثر من تسع ساعات خارج القنصلية وسط تصاعد مخاوفها وقلقها من تعرض خطيبها لمكروه واتصلت أثناءها بمستشار الرئيس التركي وبعض أصدقاء خاشقجي في إسطنبول، بينهم معارضون سعوديون عبّروا عن غضبهم لذهاب خاشقجي منفردا إلى القنصلية.

لم تدرك السيدة التركية المفجوعة أن ساعات انتظارها كانت تشهد أفظع عملية تنكيل بربرية بجثمان خاشقجي بعد تصفيته خنقا، بحسب التقديرات التي خلصت إليها التحقيقات والتقارير الاستخبارية.

وتكشف التسجيلات الصوتية التي سربت لاحقا إلى وسائل إعلام تركية عن دعوة خاشقجي إلى مكتب القنصل محمد العتيبي، حيث دار معه نقاش محتدّ بخصوص قرار تسفيره عنوة إلى الرياض لمحاكمته.

هدد خاشقجي بأن هناك أشخاصا ومرافقين ينتظرونه أمام القنصلية، قبل أن يدخل فريق التنفيذ الذين عملوا على شلّ حركته وحقنه بمادة مخدرة.

تنقل التسجيلات الصوتية حوارا بين الصحفي السعودي المغدور والعتيبي أثناء الإمساك به من كوماندوز الإعدام، حيث يظهر صوته قائلا: كيف يمكن لشيء كهذا أن يحدث في سفارة، لماذا هذه الفوطة؟ هل ستقومون بإعطائي عقاقير؟

بعد معركة محتدمة مع خاشقجي الذي كان يتميز ببنيته الجسدية القوية، تمكّنت عناصر التنفيذ من السيطرة عليه وإعطائه المخدر ثم خنقه بوساطة كيس بلاستيكي، وهو ما أثبتته التسجيلات الصوتية.

التخلص من الجثة

في حدود الساعة الواحدة وتسع ثلاثين دقيقة ظهرا نقلت التسجيلات صوت منشار كهربائي، ما يفيد بدء الطبيب الشرعي صلاح الطبيقي عملية تقطيع الجثة.

قام جزار القنصلية في مشهد تقشعر له الأبدان بتمزيق جسد خاشقجي وفصل الأطراف، ثم شق الجذع إلى أكثر من قطعة، ووضعها في أكياس بلاستكية بحسب الخطة التي تم الاتفاق عليها مع ماهر مطرب، خلال اتصال هاتفي بينهما تمكنت المخابرات التركية من اعتراضه قبل يوم الجريمة.

وضعت الأجزاء لاحقا في حقائب جلدية وشرعوا في نقلها خارج المكان، بداية من الساعة الثالثة ظهرا.

وثقت كاميرات المراقبة خروج عدد من عناصر الكوماندوز عبر الأبواب الخلفية، محمّلين بأكياس بلاستكية تحتوي أجزاء من الجثة.

وخلصت تحقيقات الأمن التركي إلى احتمالات عن مصير الجثة المغيبة حتى اليوم، بإمكانية إحراقها بفرن ضخم للشواء بمقر إقامة القنصل السعودي محمد العتيبي، فيما قالت الرياض لاحقا إن الجثة تم التخلص منها عبر “أحد المتعاونين الخارجيين”.

طوال الأيام التي أعقبت الجريمة، ومع تصاعد الضغط الإعلامي والديبلوماسي، تمسكت السعودية بإنكار معرفتها بمصير خاشقجي الذي قالت إنه غادر القنصلية، بينما تابع العالم بعد قرابة ثلاثة أيام مشاهد ساخرة للقنصل العتيبي أمام الكاميرات يتجوّل في مكاتب القنصلية، ويفتح الأدراج وأبواب الخزانات، ليثبت أن خاشقجي ليس هناك، بينما صرح ابن سلمان لمحطة بلومبيرغ بثقة: “ليس لدينا ما نخفيه بشأن خاشقجي”.

بعد عشرين يوما من الإنكار بدأت ملامح جريمة العصر تتكشف، تزامنا مع دخول المحققين والمحللين الجنائيين الأتراك إلى مقر القنصلية، وعثورهم على الدلائل الأولى لعملية القتل البشعة وإثباتها بالأدوات العلمية، ليخرج الاعتراف المتأخر من الرياض على شاكلة بلاغ مقتضب، مفاده أن التحقيقات الأولية “أثبت وفاة خاشقجي عن طريق الخطأ بعد تعرضه للخنق أثناء مشاجرة وقعت بينه وبين بعض موظفي القنصلية”.

بدت الإجراءات التي اتخذتها السلطات السعودية مفضوحة وتؤكد تورطها المباشر، فبينما برّأت ساحة مستشار ابن سلمان السابق، وجّه الادعاء العام تهمة القتل عن طريق الخطأ إلى عدد من الأفراد الذين أثبتت التحقيقات تورطهم، وصدرت بحق أغلبهم أحكام مخففة وشكلية، بعد محاكمات سريعة وصفت بالهزلية على مستوى دولي.

في 22 ماي/مايو من العام الماضي أعلن أبناء خاشقجي العفو عن قتلة والدهم “لوجه الله وطلبا للأجر والمغفرة، ” كما ذكر البيان، وسط ترجيحات بتلقيهم تعويضات ضخمة مقابل تجاوز الملف وإغلاقه برمته.

قبض أبناء خاشقجي ثمن دماء والدهم بحسب بعض المراقبين، أو تغاضوا عن طلب الثأر له تحت إكراهات الأمر الواقع، بحسب آراء أخرى، لكن رد الاعتبار للصحفي المغدور ما يزال مرتبطا بالحقيقة التي تتمسك بها منظمات حقوقية دولية وجهات قضائية تركية وأمريكية، ما قد يكلل يوما بإدانة مباشرة علنية جنائية وسياسية للمسؤولين الحقيقيين، حتى وإن عجزت العدالة عن الوصول إليهم لتطبيق القصاص.