وجدان بوعبدالله
تصريحات غير مسؤولة، هكذا يمكن بإيجاز وصف تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة. الرجل أعقب تصريحاً يدّعي فيه بأن “الدين الإسلامي في أزمة في كامل بقاع الأرض” بتصريح آخر شجع فيه على نشر رسوم مسيئة عن النبي محمد. التصريح الثاني كان بمناسبة تأبين مدرس فرنسي عرض رسوماً كاريكاتيرية عن النبي محمد في فصل دراسي وقطعت رأسه الأسبوع الماضي. ماكرون صرح من جامعة السوربون متحدثاً عن المدرس:”صمويل باتي قُتل لأن الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا ويعرفون أنهم لن يحصلوا على مرادهم بوجود أبطال مطمئني النفس مثله”. الحقيقة أن قطع رأس المدرس جريمة نكراء رفضها بشدة ملايين المسلمين حول العالم ومشايخهم وهيئاتهم الدينية وكأنهم ينأون بأنفسم عن جريمة أصلا لم يرتكبوها لكنهم كانوا يعلمون أن ثمنها سيدفع من كرامات مسلمين حول العالم ومن وصم إضافي لهم.
الرئيس الفرنسي دافع بشدة عن الرسومات التي عُرضت في فصل مدرسي قائلاً أمام جمع من الأكاديميين في جامعة السوربون “لن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات وإن تقهقر البعض، سنقدم كل الفرص التي يجب على الجمهورية أن تقدمها لشبابها دون تمييز وتهميش، سنواصل أيها المعلم مع كل الأساتذة والمعلمين في فرنسا، سنعلم التاريخ مجده وشقه المظلم وسنعلم الأدب والموسيقى والروح والفكر”. فكرياً ليس على المفكر حرج من الدفاع عن حق الاختلاف والذود عن شجاعة الفكرة وفسح المجال أمام المقاربات المختلفة لإثراء الزاد الإنساني، لكن دفاع ماكرون عن حق نشر كاريكاتير عن النبي جاء ليذكي نار الفتنة ويمنح المتطرفين المحسوبين على الدين الإسلامي حججاً كافية لشن هجومات متفرقة.
ألم يدفع المسلمون من نيودلهي إلى طنجة فاتورة جرائم ارتكبها متطرفون باسم الدين وهم منهم براء؟ ألم يقدم ماكرون بهذا الكلام خطاب كراهية بوجه المسلمين بعد أسابيع قليلة من تصريحه بأن الإسلام دين يعيش أزمة في كل العالم؟
حين يتحدث بابا الفاتيكان
في يوم ما قال بابا الفاتيكان عن سخرية شارلى إيبدو من الإسلام: “من يسيء لأمي (في إشارة إلى الدين) يمكنه أن يتوقع لكمة مني”. البابا أعلى سلطة دينية كاثوليكية كان يومها حازماً مشيراً بوضوح إلى رفض الفاتيكان الإساءة إلى النبي محمد.
ماكرون وبعد سنوات على عملية شارلي إبدو، يكرر حماقات أفدح من نشر شارلي إبدو تلك الرسوم التي كانت بعنوان: حرية التعبير. في الحقيقة وبعد أن مرت سنوات على تلك الاعتداءات الإرهابية، ها نحن نرى بأم العين مخلفاتها: استقوت خطابات الكراهية من فئات دينية مختلفة، زادت الاعتداءات على مسلمين، نبذ للمحجبات في عدة أماكن عامة في الغرب بل حتى في برلمان فرنسا نفسه. ماكرون اليوم صار بدوره أكبر خطر على حرية التعبير، لأنه يستدعي نزاعات تاريخية شُنت باسم الدين، يشحذ الذاكرة الإنسانية بذكريات عن ممارسات فرنسا حين كانت قوة احتلال عاثت ترهيباً وإرهاباً في المستعمرات.ماكرون يمثل دولة أكبر شعاراتها العلمانية، وأنا بدوري أجد نفسي في هذا التصنيف: علمانية، علمانية مسلمة، أؤمن بمدنية الدولة وحرية المعتقد ولا أريد دمج الدين بالسياسة، وجميعها مبادئ متعارف عليها في “المعسكر العلماني”.لكن اليوم هل علي أن أثبت أني علمانية بشكل جيد بالقبول بتصريحات ماكرون التي هاجمت الدين الإسلامي وقللت من فداحة الإساءة إلى نبي محمد؟ هل علي تجاهل ما قاله رئيس فرنسا بحجة أني عقلانية وإني أحترم “حرية التعبير” المكفولة لرئيس دولة شعارها أصلا ” الحرية المساواة والأخوة”؟ ماذا فعل ماكرون بهذه الأخوة؟ هو الذي وصم ملياري مسلم بأن دينهم في أزمة وكأنه يحرض ضدهم بدوره. هل الصمت اليوم عقلاني؟
أعتقد بأن العلمانية اليوم في خط الدفاع الأول عن حرية التعبير وحرية التعبير تشمل احترام معتقدات الآخرين واحترام أنبيائهم وليس شرطاً أن يكون الشخص مؤمناً ليفعل. محال أن نسمح اليوم بحرب مقدسات في العام 2020 ولا أن يصبح النبي محمد ورقة انتخابية بيد ماكرون يستميل بها اليمين المتطرف ليسحب البساط من غريمته مارين لوبان التي لطالما استخدمت المسلمين (تماماً مثل أبيها) ورقة انتخابية بفضلها اكتسحت صناديق الاقتراع.الاستفزازيون
”هناك عدد كبير من الناس يتحدثون بسوء عن الديانات الأخرى ويسخرون منها ويتلاعبون بدين الآخرين.. إنهم استفزازيون” هذا الكلام لبابا الفاتيكان نفسه حين تعلق الأمر برسوم شارلي إبدو المسيئة. اليوم لدينا رئيس دولة يسيء لدين بأكمله وفي الآن ذاته يغضب حين شكك رئيس آخر: رجب طيب أردوغان بمداركه العقلية.محاولات تقزيم حجم الأزمة التي خلقها ماكرون بتصريحاته تتنزّل في سياق نوع آخر من التعتيم وشيطنة الدين. لا إكراه في الدين ولا أحد يرغم آخر على اعتناق أي نوع من الإيمان. الخطورة أن يصبح المسلم اليوم خائفًا من الحديث عن حبه لنبيه حتى لا يُنعت بالساذج والسطحي والمهووس بالدِّين. حتى لا يقال له: مشاكلك: الفقر والبطالة وبلادك تعيش على المساعدات من فرنسا. هذا صحيح. لكن أليس من حق هذا المواطن أن يعيش إيمانه بسلام دون شعور بالذنب؟ أن يعبر عن غضبه حين يشتم نبيه؟ لا بقطع الرأس طبعا…أحمق من يتهم المسلمين بأنهم قاطعوا رؤوس. قطع الرؤوس حدث في ماضٍ غير بعيد على يد فرنسيين سلوا سيوفهم وقطعوا رؤوس مقاومين جزائريين قالوا لا للاستعمار الفرنسي، وعرضت جماجمهم طيلة عقود في متحف باريسي ومع ذلك لا أحد يعاير فرنسا اليوم بأنها قاطعة رؤوس ولا بعارضة جماجم قطعت رؤوس أصحابها. فكيف يحمل المسلمون وزر شخص واحد قطع رأس مدرس عرض رسومات مسيئة عن النبي؟
الإيليزيه اعتبر تصريحات أردوغان بحقه غير مقبولة، ولم يتقبلها من باب “حرية التعبير” لأن العُرف الدبلوماسي يرفضها، كذلك الشأن حين يتعلق الأمر برئيس دولة ينعت دين ملياري مسلم بأنه دين متأزم ويشجع على نشر رسوم يراها مؤمنون مهينة لنبيهم. الإيمان أكبر من أن يهزه رسم مسيء لنبي، لكن هذه اللحظة التاريخية تحتاج الكثير من الحكمة السياسية لا تأجيج صراعات دينية، فالعالم في غنى عنها.