تعد “حنايا” زغوان إحدى أهم الشواهد التاريخية بهندستها المعمارية الرومانية التي تعود إلى القرن الثاني للميلاد وهي مشروع مائي ضخم سابق لعصره أطلق عليه اسم “أهرامات تونس”.
ماهي الحنايا؟
“الحنايا الرومانية” هي جسور معلقة تعلوها شبكة مياه أو سواق مغطاة، تنبسط فوق أقواس وأعمدة شيدت من صخور صلبة تمتد على طول 132 كيلومترا لنقل المياه العذبة من زغوان، شمال شرق تونس، إلى قرطاج في الشمال الغربي التونسي.
شيدت “الحنايا” بأمر من الإمبراطور الروماني “أدريانوس”، في أوائل القرن الثاني للميلاد، تحديدا في الفترة الممتدة بين 117 و138 ميلاديا، بعد إعجابه بعذوبة ماء زغوان، إذ أمر حينها بجلب المياه من زغوان إلى مدينة قرطاج التي كانت مركز الحكم آنذاك، بعد أن عانت لمدة 5 أعوام من الجفاف.
أرسل حينها الإمبراطور “أدريانوس” خبراء في الفلاحة والبناء، من قرطاج إلى “زيكوا” لتنفيذ المشروع، فما كان منهم إلا أن أضافوا عيونا أخرى إلى جانب عين “نافا” أو “عين زغوان” وهي”عين عياد” و”عين بن سعيدان” و”عين زيقا” و”عين جور” بمنطقة “جغار” من جبل الفحص و”عين بوسعدية” في جبل برقو.
كل هذه العيون العذبة تلتقي في منطقة “مقرن” وفي هذا المكان تتضح هذه الشبكة المائية العجيبة التي شرع في بنائها سنة 122 ميلاديا واكتملت سنة 166 ميلاديا أي في نفس الفترة التي اكتملت فيها أشغال حمامات قرطاج المعروفة بـ”بحمامات أنطونيوس” المطلة على البحر الأبيض المتوسط والتي استقبلت مياه زغوان، وسط احتفالات امتدت لأسابيع بأمر إمبراطوري.
معجزة هندسية
للحنايا قيمة أثرية كبيرة، فهي قناة مائية تمر فوق سطح الأرض وتحتها، في العديد من الأماكن والأروقة، كما تمتاز بطول استثنائي منذ تشييدها حتى يومنا هذا، حتى أن الكثير من خطوط أنابيبها مايزال يعمل.
وتعد “الحنايا” معجزة هندسية، فقد اعتبرها المؤرخون “أكبر مركب هيدروليكي روماني على مر التاريخ”، إذ لم تعرف يوما تدفقا عنيفا للمياه وذلك لدقة الميلان الذي قام به المهندسون والذي لا يتجاوز في كل الحالات 0،29 درجة.
ومن المثير للإعجاب أن “الحنايا” تنخفض في بعض الأماكن لتلامس الأرض، خاصة عند سهول “مقرن” و”هنشير الداموس”، ثم ترتفع بنحو 20 مترا في اتجاه المحمدية وباردو ووادي الليل وصنهاجة.
وعن قوة وصلابة معمار “الحنايا”، تحدث العلامة التونسي عبد الرحمان بن خلدون في كتاب “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” والمعروف بـ”المقدمة “، قائلا:“ وكذلك الحنايا المعلقة بقرطاجنة إلى هذا العهد احتاج أهل مدينة تونس انتخاب الحجارة لبنائهم واستجاد الصناع حجارة تلك الحنايا فتراهم يحاولون هدمها لأيام عديدة فلا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق وتجتمع له المحافل، لقد شهدت منها في أيام صباي كثيرا.
صراع الرومان دمر “الحنايا”
خلال صراع الرومان فيما بينهم، دمر جزء كبير من المشروع الضخم “الحنايا”، لكن في فترة حكم الخليفة الحفصي المستنصر بالله وتحديدا في القرن 13 للميلاد، تقرر ترميم الحنايا وإعادة الحياة إليها من جديد، بعد إضافة حنايا جديدة لتزويد مدينة تونس بالماء الصالح للشرب وسقي منتزهات “راس الطابية” وجنان أريانة وحدائقها العجيبة بأحواز مدينة تونس وتوفير الماء لجامع الزيتونة المعمور بتونس العاصمة وقد بناها المستنصر بنفسه في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، مستفيدا من تقنيات عصره.
التدخلات التطويرية التي أجريت على “الحنايا” في عهد المستنصر بالله الحفصي، جعلت تواصل استغلال شبكة قنوات مياه زغوان مستمرا في بعض النقاط إلى يومنا هذا.
أما خلال فترة الحكم الحسيني، أبرم اتفاق شهير بخصوص الحنايا، أمضي سنة 1852 بين “محمد باي” والقنصل الفرنسي، إذ شيدت فرنسا بمقتضاه خزانات كبرى بمنطقة “سيدي عبد الله”.
وذكر المؤرخون أن إصلاحات الوزير الأكبر خير الدين باشا شملت أيضا ترميم الحنايا الرومانية التي تزود مدينة تونس بالماء، كما حرص على إسناد “لزمة ماء زغوان” إلى جنرالات مرموقين مثل الجنرال البكوش وحسين ورستم ومحمد خزندار.
“الحنايا” تتطلب تدخلا للترميم
بقيت الحنايا تعمل بانتظام إلى حدود القرن التاسع عشر، قبل أن تتحول إلى معلم أثري يشرف عليه المعهد الوطني للتراث التابع لوزارة الشؤون الثقافية، لكن هذا المعلم المصنف ضمن القائمة الوطنية الأساسية لم يحظ بالعناية والصيانة اللازمة طيلة فترة الاستقلال.
وباستثناء الترميمات التي شملت الأعمدة الممتدة على طول 60 كيلومترا خلال فترة السبعينات والثمانينات، بقيت أهرامات تونس مهملة، خاصة تلك الأجزاء الموجودة في المناطق الحضرية والعمرانية، حيث تعرض جزء من الحنايا الموجود بمنطقة المحمدية من ولاية بن عروس سنة 2018 إلى عمليات هدم كاملة بجرافة آلية من قبل السكان على إثر الفيضانات التي جدت وقتها.
كما استولى العديد من المواطنين بجهة باردو من ولاية تونس وصنهاجة ووادي الليل وشباو من ولاية منوبة على الأراضي القريبة من الحنايا وضمها إلى منازلهم ومصانعهم حتى أن الكثير منهم أزال أجزاء من الحنايا بشكل كلي في اعتداء صارخ على الذاكرة والتراث الوطني في حين لزمت وزارة الشؤون الثقافية الصمت.
كما تحولت أجزاء من “الحنايا” في مناطق أخرى إلى مصبات للفضلات ونفايات البناء، ما يستوجب اليوم تدخلا عاجلا لترميمها والحفاظ عليها من أجل إدراجها ضمن القائمة التمهيدية للتراث العالمي.