"حمام الشط"... مدينة تونسية عشقت فلسطين "حتى الشهادة"
tunigate post cover
عرب

"حمام الشط"... مدينة تونسية عشقت فلسطين "حتى الشهادة"

في ذكرى العدوان الصهيوني على مدينة حمام الشط... كيف أعادت هذه المدينة الوهج الفدائي والسياسي إلى الثورة الفلسطينية؟
2022-10-01 17:17

وجدي بن مسعود


“على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة”… لا تليق هذه العبارة بأحرفها “الأنطولوجية” التي صاغها محمود درويش، بفلسطين التاريخية فحسب، بل تمتدّ لتسبغ شرفا ملحميا على كلّ أرض عربية قدّمت ضريبة الدم والحرية والنضال، وأسهمت من موقعها في مقاومة الاحتلال الصهيوني منذ العام 1948. 

على امتداد جغرافية “الوطن العربي”، دوّنت عواصم ومدائن كثيرة أسماءها في سجلّ الشرف والكفاح، مكلّلة بنياشين الفخر والشهداء الذين قدّمتهم تكريسا لوحدة المعركة والمصير، وتثبيتا للمكانة الوجدانية لفلسطين وقضيتها العادلة في ضمير كلّ إنسان عربي. 

عاصمة المقاومة الفلسطينيّة

ليس من باب المبالغة في شيء، القول إنّ مدينة حمام الشط الواقعة بالضاحية الجنوبية للعاصمة تونس، تحتلّ مكانة خاصّة بين دفاتر الثورة الفلسطينية وذكريات معاركها الباسلة التي خاضتها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. 

فهذه المدينة القائمة ما بين أحضان جبل بوقرنين والبحر المتوسّط، شكّلت طوال ما يزيد عن 10 سنوات محور مرحلة جديدة في مسيرة النضال الفلسطيني، وكانت خلالها بمثابة عاصمة القرار السياسي والعسكري لمنظّمة التحرير الفلسطيني، بعد خروجها من لبنان سنة 1983. كما كانت قاعدة لتخطيط عملياتها الفدائية ضدّ الاحتلال. 

قد تبدو المقارنة للوهلة الأولى غريبة مستهجنة وغير منطقية؛ فشتّان ما بين البطولات والمعارك التي شهدتها بيروت وجنوب لبنان والملاحم التي سطرت في قرية الكرامة بالأردن -على سبيل المثال- وهذه المدينة التونسية الصغيرة التي تعرّضت لعدوان صهيوني استهدف معسكرات منظّمة التحرير الفلسطينية ومواقعها، مخلّفا عشرات الشهداء والجرحى ودمارا واسعا في البنية التحتية. 

العدوان الإجرامي على حمام الشط -الذي وقع في مثل هذا اليوم الفاتح من أكتوبر/تشرين الأول 1985- لا يُقارَن عسكريا بما شهدته مدن عربية أخرى، لكنّه كان كفيلا بأن يجعل منها صفحة استثنائية وأيقونة خالدة في ذاكرة الثورة الفلسطينية. 

عودة الروح

تتجاوز رمزية مدينة حمام الشط في الوجدان الفلسطيني، الدور الذي لعبته في احتضان المقاتلين الفلسطينيين وقيادات منظّمة التحرير، إذ أسهمت في حماية حركة الكفاح المسلّح من التراجع، بعد الضربات القاسية والخسائر الفادحة التي تعرّضت لها خلال الحصار الصهيوني لبيروت. 

شهدت المدينة عودة الروح إلى مسار المقاومة، واستعادة الوهج السياسي للثورة الفلسطينية بعد فترة من الشكوك بشأن قدرتها على الاستمرار في صدارة المشهد، في ظلّ التحوّلات الإقليمية العاصفة وبعدها الجغرافي عن خطوط التماس مع الأرض المحتلّة. 

احتضنت هذه المدينة الهادئة أخطر محطّات إعادة البناء، وترميم الصفوف، واستعادة الثقة داخل صفوف المقاتلين الفلسطينيين. كما شهدت تفتّق عبقريّة الشهيد خليل الوزير “أبو جهاد” في التخطيط الاستراتيجي، واستنباط عمليات جريئة ضربت الاحتلال في مقاتل كثيرة، وأصابته بالجنون، ولتفرض عليه العودة إلى حالة التأهّب المستمرّ بعد أن خُيِّل إليه -لبعض الوقت- أنّ خطر الفدائيين قد ولّى. 

الاستهداف

مع تواتر الحراك العسكري والسياسي لحركة فتح ومنظّمة التحرير الفلسطينية في تونس، تحوّلت حمام الشط إلى متلازمة عدائية جديدة للاحتلال، وباتت في مرمى مخطّطاته القذرة، ليتّخذ القرار أواخر العام 1984 بتنفيذ عدوان جوي، يستهدف معسكرات المقاتلين ومقرّ ياسر عرفات ومكاتب إدارية لمنظّمة التحرير. 

كانت عملية “الساق الخشبية” -وهي التسمية التي أطلقها جهاز “الموساد” وهيئة أركان جيش الاحتلال على خطّة ضرب حمام الشط- معقّدة التفاصيل، متشابكة الأطراف من تل أبيب وصولا إلى واشنطن، حيث لعب الجاسوس الإسرائيلي ومحلّل الاستخبارات السابق لدى البحرية الأمريكية جونثان بولارد، دورا خطيرا في تسريب صور جوية للمدينة والمواقع المستهدفة إلى الصهاينة، مرفقة بتقارير وخرائط مفصّلة. 

بعد أسابيع من الإعداد ومن تدريب الطيارين على نماذج مصغّرة مشابهة لمخطّطات المدينة، بدأ العدّ العكسي مع انطلاق 8 طائرات من طراز إف 16 من فلسطين المحتلّة فجر الأول من أكتوبر 1985، لتقطع آلاف الكيلومترات عبر البحر المتوسّط، تفاديا لرصدها من الرادارات الليبية والمصرية، لتصل إلى الشواطئ التونسية قرابة التاسعة والنصف صباحا. 

في تمام العاشرة صباحا، تلقّى الطيارون الصهاينة عبر أجهزة اللاسلكي أمر التنفيذ، لتنهال ستّة صواريخ على مقرّ قيادة الأركان الفلسطينية، فأزالته تماما.  

 كما قصفت مقرّ ياسر عرفات ومكتبه والمقرّ الخاصّ بحراساته، إلى جانب بيت احتياطي له بالمنطقة.

ما بعد العدوان

كانت الذريعة الجاهزة -التي برّر بها الاحتلال هجومه الغادر، وانتهاك السيادة التونسية، وقصف المدنيين والأبرياء- هي تغاضي السلطات التونسية عن النشاط العسكري للفلسطينيين، لكنها عرّت في المقابل الوجه القبيح للصهيونية بعد أن قُوبل العدوان بإدانة واسعة في المحافل الدولية، ما أحرج الولايات المتّحدة في مجلس الأمن والأمم المتّحدة، ومنعَها من استخدام الغطاء السياسي والدبلوماسي المعهود للدفاع عن ربيبها المدلّل. 

  بلغت الحصيلة البشرية للعدوان 68 شهيدا وأكثر من 100 جريح من التونسيين والفلسطينيين، يحتضنهم ثرى المدينة في مقبرة شهداء فلسطين التي باتت مزارا نضاليا، وأيقونة في التاريخ المشترك بين الشعبين، وشهادة تذكر بعض الأصوات الناعقة بالتهليل للتطبيع بأنّ ما تُسوّق له هو محض خيانة للشهداء وليس مجرّد وجهة نظر.   

أحداث حمام الشط#
الساق الخشبية#
المقاومة الفلسطينية#
تونس#

عناوين أخرى