مختار غميض
عرفت السواحل التونسية السنة الأخيرة، بين صيفيْ 2021 و2022، هجرة غير نظامية مكثّفة، يمكن ملاحظتها بوضوح في مدن الجنوب التونسي بحكم ضعف الكثافة السكانية بها، حتى أصبحت تُوصف بـ”الهروب الجماعي” من البلاد.
لكنّ غرق “قارب الموت” بجرجيس نبّه الجميع للظاهرة، بعد شبه غياب للسّلطات الأوروبية والتونسية، ظهر في صورة التواطؤ الرسمي لإنقاذ الرئيس التونسي
قيس سعيّد من أزماته، في تحالف فرنسيّ مع الدولة التونسية العميقة -على حدّ تعبير الإعلام الفرنسي- فما حقيقة ذلك؟
“قتلتني مرتين”…!
أُهينوا مرّتين، أحياء وأمواتا، لكأنّه إذلال ممنهج لأهالي المفقودين في فاجعة غرق مركب المهاجرين بجرجيس، هذا ما عبّر عنه لسان حال كثيرين، عن إهانة الدولة لأبنائها، فلا هي وفّرت لهم مصادر رزق ولا دفنتهم بكرامة.
بل تنصّلت من زيارة أولياء المفقودين، رغم الدعوات المتكرّرة لرئيس الجمهورية بزيارتهم، بعد أن شبعوا غرقا في البحر، وبعد أن ضاقت بهم تونس بما رحبت، دُفنوا في مقبرة مخصّصة للغرباء على جناح السرعة، كأنّهم بصدد دفن جريمة معهم، في حين ما تزال مشقّة البحث عن رفاقهم متواصلة لأكثر من شهر، بإمكانيات محدودة من بحّارة المدينة مقارنة بإمكانية الدولة الغائبة قبل الحادثة وبعدها.
تأتي الفاجعة متزامنة مع إحياء عيد الجلاء، وشعور بنكد تماهى مع رغبة أبداها البعض في الجلاء عن الوطن، كأنّه يغبط آخر جندي فرنسي جلا عن تراب الوطن!
لا يقبل أولئك الملتاعون دروسا في الوطنية والانتماء، فالكرامة عندهم موروثة، يدركون أنّ ضياعها من ضياع الأوطان وأنّ “الوطن قبل البطن”، قالوها عندما واجهوا فلول الإرهابيين “الدواعش”، وهي تكاد تطبق حصارها على بن قردان المجاورة.
شهادات ميدانية من داخل جرجيس، تؤكّد تعرّض الضحايا لـ”مؤامرة”، ما كان وراء التسريع بدفن أبنائهم في مقبرة لموتى المهاجرين غير التونسيين، قبل تفطّن الأهالي لذلك.
يكثر اللّغط في مثل هذه الأحداث، بين من يدعو إلى عدم التسييس والتوظيف، وبين من يتّهم الدولة العميقة في الإمعان في تهميش أعماق البلاد، وبين من اعتبر الموضوع مسّيسا بطبعه، منذ فرض الإجراءات الاستثنائية وتبني الراوية الأحادية، محمّلين هرم السلطة كلّ المسؤولية، بما أنّه قد جمع السّلط كافة بيده منذ 25 جويلية/ يوليو 2021.
لكن من الثابت أنّ التدخّل الرسمي كان متأخّرا وغير مبال، في خروج باهت حمّل فيه الرئيس المسؤولية للحيتان الكبيرة، التي قال إنّها فاقمت الظاهرة، وكأنّ الظاهرة جديدة ولم تتفاقم في عهده.
فحسب دراسة ميدانية هذا الصيف، فإن أكثر من عشرة آلاف شاب ألقوا بأنفسهم في أتون الهجرة غير الشرعية، من محافظة تطاوين فقط، بينما تضاعف عددهم في عموم تونس؛ أي أكثر من عشرين ألف “حارق” خلال عام واحد بين صيفي 2021 و2022.
هذا الجلاء الجماعي، تدفع ثمنه مجدّدا الجهات العميقة، كغيرها من الجهات الداخلية والمهمّشة بأحواز العاصمة بعد أن دفعته في 2011، رافعة “فيتو” في وجه لصوص المال العام، فلم يروا إلى اليوم غير الخطابات الرنانة، وكأنّ الثورة بدأت تأكل أبناءها الذين أشعلوها.
بل عادت آلات القمع القديمة نفسها إلى ماكينة الدولة العميقة ضدّ “المهمّشين بطبعهم”، بدل بحث أصل المشكلة وفتح ملفات الثروات التي يراها الأهالي عيانا دون استفادة منها، بينما تُلقى الاتّهامات على شركات النهب الاستعمارية، حتى أصبحت شمّاعة بائسة لامتصاص غضب الشباب المعطّل عن العمل ليس إلّا، ودفعه إلى الانتحار أو إلى ركوب البحر.
لكن مع موجات الهجرة غير المسبوقة، السنتين الماضيتين، توجّهت أصابع الاتّهام إلى فرنسا بهدف تخفيف الضغط عن اليد العاملة في شركاتها المنتصبة بتونس، والتي أدخلت مئات العملة الجدد، وما يوصف بالتفريج عن الأزمات التي يواجهها قيس سعيّد، خاصّة مع وقف الانتدابات العمومية والتنصّل من تطبيق اتّفاقيات “الكامور” لتشغيل الشباب بالحقول النفطية.
فكثافة المهاجرين هذه السنة، جعلت كثيرين يسألون عن سبب تعمّد السّلطات التونسية غضّ الطرف عن المهاجرين عبر مختلف المسارات، عرض البحر، أو برّا عبر تركيا والأراضي الصربية، وربطوا ذلك بما وصفوها سياسة متعمّدة لإخراج قيس سعيّد من عنق الزجاجة.
وعود سابقة بحلّ الأزمة
تُعدّ فرنسا الملاذ الأول للدولة التونسية العميقة خلال فترة تأسيسها، حتى أصبحت مقصدا للتونسيين بعد السنوات الأولى للاستقلال، وما تزال عبر الهجرة النظامية أو غير النظامية، ضمن رؤية قديمة متجدّدة تراعي المتغيّرات في كلّ بلدان المغرب العربي والعمق الإفريقي، كمستعمرات ومستثمرات اقتصادية وسياسيّة.
وعارضت فرنسا الثورة التونسية في بدايتها، وظلّت متوجّسة من الانتقال الديمقراطي الذي صعد بالإسلاميين إلى الحكم، ثم باركت إجراءات قيس سعيّد الاستثنائية قبل اختياره باريس أوّل وجهة أوروبية، بعد دخوله القصر.
كما ظلّت فرنسا تتّخذ من موضوع الهجرة مجالا للابتزاز (حتى مع الدول المغاربية مثل موضوع الغاز مع الجزائر حاليا)، ونذكر هنا إقرار ماكرون قبل عام بأنّ موضوع تقليص التأشيرات للتونسيين “قابل للتعديل”، ورأينا تراجع ماكرون فعلا، بعد إعلان قيس سعيّد إجراء حوار وطني وخارطة طريق.
أما في ما يخصّ موضوع الهجرة غير النظامية، فقد راوحت فرنسا بين ترحيل التونسيين بما لا يضرّ علاقاتها بقيس سعيّد -إن لم نقل يخدمها- وبين البحث عن معالجات لاحتواء موضوع المهاجرين.
فقد استغلّ الإليزيه بموافقة تونسية، الفراغ السياسي الدستوري والبرلماني الذي عرفته تونس، بترحيل قسري لمئات التونسيين عبر مطار طبرقة، في انتهاك صارخ لحقوقهم -وفق تقارير حقوقية- بمن فيهم مهاجرون غير نظاميين، وآخرون بصدد تسوية وضعياتهم.
لكنّ الجانب الفرنسي أوقف تلك السياسة بعد وعود سعيّد بمعالجة المشكل وإعلان تكوين حكومة، ممّا رفع الحرج عنها في القيام بأيّ ترحيل لاحق.
لكن رغبة فرنسا في رفض استقبال المهاجرين لم تنقطع، لولا خشيتها من الوقوع بطريقة أو بأخرى في معارضة السياسة التونسية الجديدة، حيث لم يخفِ ماكرون دعمه صمود نظيره التونسي، حتى خلال قمعه مظاهرة المعارضة في الذكرى الحادية عشرة للثورة في جانفي/كانون ثاني الماضي.
لقد حثّ ماكرون حينها قيس سعيّد على إجراء إصلاحات للخروج من المأزق الاقتصادي، لعلمه جيّدا بأنّه الخطر الوحيد الذي قد يُغصب الشارع التونسي ويؤثّر في قصر قرطاج، في تدخّل سافر، شبّهه متابعون بالتدخّل الفضّ والصريح في الشأن اللبناني، بعد تداعيات انفجار ميناء بيروت.
فضلا عن ذلك، لم تراع فرنسا موقف المعارضة التونسية الرافض التدخّل في الشأن التونسي أو المشروع السياسي لقيس سعيّد، الذي تراه المعارضة مشروعا قائما على الأمن واستنساخا لتجربة الرئيس الأسبق بن علي، الذي أحرج الدولة الفرنسية بشكل كبير، عند افتضاح استعدادها لدعم النظام بالسلاح في سبيل عدم إسقاطه، على خلاف توقّعات الدولة الفرنسية العميقة.
وعموما، فإنّ فرنسا تمثّل شريان الحياة لقيس سعيّد، وهذا ليس سرّا في الإعلام الفرنسي، فقد كشفته “جون أفريك” في الآونة الأخيرة، ما قد يعكس توق فرنسا، دون بقية أعضاء الاتّحاد الأوروبي والولايات المتحدة، إلى عودة الدولة التونسية العميقة، ذلك ما يفسّر اختلاف تعاملها مع ملف الهجرة، على الأقل.
مشروع لتوطين المهاجرين
ضمن المساعي نفسها لتخفيف وطأة المهاجرين عن الدول المصدّرة والمستقبلة في آن، طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي، مشروعا جديدا لإسكان المهاجرين غير النظاميين، والذين لم يحصلوا على حقّ الإقامة، بالمناطق النائية لإعمارها، بحجّة تخليصهم من المعاملة غير الإنسانية، والحدّ من ظاهرة التشرّد والتسوّل بالمدن الكبرى مثل باريس.
المبادرة هذه، المبرمج طرحها بداية 2023، فيما بدأت تجربتها ببعض البلدات، تبدو حلاّ منسجما مع الدول المصدّرة للمهاجرين، وتونس من ضمنها، ما يؤكّد تناغم فرنسا مع سياسات تخفيف الأعباء عن منظومة قيس سعيّد في ما يخصّ ملف الهجرة على مستويين مهمّين.
فبإمكان المشروع أن يستوعب الآلاف من التونسيين الذين لا يملكون تصاريح إقامة أو تجاوزوا مدّتها، وهو ما يعدّ حلّا فعّالا إلى حدّ كبير، إذ يحول دون عودة الآلاف في حال تمّت معاملتهم بطريقة قانونية.
ورغم تغاضي السّلطات الفرنسية منذ سنوات عن دخول التونسيين غير النظاميين، إلّا أنّ معدّلات “الهجمة الجماعية” اللافتة هذه السنة، تدفع إلى الريبة -وفق المختصين- ما يعزّز جدية مخطّط صنّاع القرار الفرنسيين لإعمار الريف الفرنسي، الذي يشكو نقصا ديمغرافيا حادا، حيث أضحت قرى بأكملها خاوية على عروشها، أُغلقت مدارسها ومنشآتها العمومية، ما كان وراء الدعوات إلى استقبال المهاجرين وسرعة إدماجهم، بتكوينهم لغويا ومهنيا.