عد عقود من التناسي والإهمال الذي أحاط بأرشيف صحيفة “الرأي” أبرز الصحف التونسية التي تبنت خطا سياسيا وتحريريا معارضا بعيد الاستقلال، أبرمت دار الكتب الوطنية اتفاقية مع عائلة مؤسسها الراحل حسيب بن عمار لرقمنة أعداد الصحيفة وإتاحتها بصفة مجانية للقراء، بما يسهم في تعريف الباحثين والطلبة والشباب من الجيل الجديد بجانب هام من الإرث الفكري الغزير لهذا السياسي التونسي والمتناثر بين صفحات الجريدة وأعمدتها وأصبح مهددا بالاندثار.
تكشف افتتاحيات “الرأي” التي واضب بن عمار على تحريرها على مدار عشرية كاملة بين 1977 و1987، عن الجانب الآخر من شخصية وزير الدفاع السابق في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، والذي تمرد على المجاهد الأكبر وخرج عن طور الطاعة العمياء والولاء المطلق دفاعا عن قيم الديمقراطية التي سعى إلى تكريسها داخل هياكل الحزب الاشتراكي الدستوري.
رجل الإصلاح بالحزب الدستوري
فعلى عكس السواد الأعظم من رجال بورقيبة وقيادات الدولة الوطنية عقب الاستقلال والذين غلبت على شخصياتهم النزعة البيروقراطية والديكتاتورية الحزبية، كان حسيب ينضوي تحت راية الفئة الصغيرة التي غردت خارج السرب، واتخذت منحى إصلاحيا وعرفت بخلفيتها الثقافية أو الفكرية العميقة التي ناقشت الشأن السياسي والحزبي.
لم تزد المسؤوليات المتنوعة التي تقلدها الرجل على المستوى الحزبي والوزاري وكذلك الدبلوماسي، إلا من قناعته بضرورة التطوير على مستوى هياكل الحزب الدستوري وتجاوز آليات العمل القديمة ما يساهم في تكريس تنوع الأفكار والآراء، ويفتح الباب أمام الطاقات والكفاءات الجديدة في مختلف مؤسسات الدولة.
لم تكن مبادرة دمقرطة الحزب الدستوري بالنسبة إلى حسيب بن عمار، سوى منطلقا لمشروع أكثر طموحا يسعى إلى تجسيد بيئة سياسية أكثر ديمقراطية وانفتاحا تقبل بتعدد الآراء والأيديولوجيات والأفكار، بعد سنوات من هيمنة الحزب الواحد الذي أجهض بوادر الحياة الحزبية في تونس بداية الستينات.
ومع تكرار صدامه بجناح الصقور كما كان يطلق عليه في الحزب الدستوري الذي كان يتبنى نهجا راديكاليا منغلقا رافضا لأية مبادرات سياسية إصلاحية داخلية على صعيد منظومة الحزب والسلطة في الدولة، كان طبيعيا أن ترتفع وتيرة مواقف حسيب المعارضة والمدافعة عن أطروحاته.
تأسيس صحيفة الرأي
بلغ الصدام ذروته خلال مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1971 الذي مثل محطة مفصلية في التاريخ السياسي التونسي، بعد أن انتهى إلى انسلاخ ثلة من المحسوبين على شق الحمائم أبرزهم حسيب بن عمار والحبيب بولعراس والصادق المقدم وراضية الحداد.
طالبت قيادات الشق الإصلاحي بإدخال إصلاحات على التنظيم الداخلي للحزب الدستوري تتمثل في إقرار انتخاب أعضاء الديوان السياسي الذي يعد أعلى سلطة حزبية، وهو الأمر الذي رفضه بورقيبة وانحاز إلى الشق المتصلب.
غادر حسيب بن عمار “بهو السلطة” بعد استقالته في السنة ذاتها من مهامه بوزارة الدفاع، ليؤسس تجربة جديدة في الدفاع عن الحريات و حقوق الإنسان والديمقراطية من خلال محطات مهمة أبرزها المجلس الوطني للحريات الذي مهد لإنشاء الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، لكن بصمته الأبرز تمثلت في صحيفة “الرأي” التي صدر عددها الأول في ديسمبر/كانون الأول 1977، وحققت انتشارا واسعا بين النخب السياسية والحزبية والثقافية لخطابها الناقد الجريء رغم ما واجهته من تضييقات وتعطيل وحجب كان يصل في بعض الأحيان إلى 6 أشهر نتيجة بعض المقالات والافتتاحيات التي كان يعجز نظام بورقيبة عن تحمل وقعها.
كرست “الرأي” تجربة استثنائية في تاريخ الصحافة المعارضة في تونس، ومهدت لولادة تجارب حزبية مستقلة وساهمت في إثراء العناوين الصحفية التونسية.
من الأقوال المأثورة التي كان حسيب بن عمار يرددها ويكتبها “الأمن في القلوب أسلم بكثير، لسلامة البلاد ولنظام الحكم نفسه، من الأمن وراء الرشاشات، فنحن نعتقد أنه لا استقرار ما دام الحزب الاشتراكي الدستوري يحتكر السلطة السياسية، ولا نهوض ما دمنا نعتمد على المال الأجنبي أكثر من اعتمادنا على طاقاتنا، ولا مناعة ما دمنا نعتمد على الطائرات الأجنبية أكثر من اعتمادنا على متانة الجبهة الداخلية”.
الكلمات التي خطها حسيب على أعمدة صحيفته قبل عقود يتكرر صداها اليوم ما يجعلها بمثابة نبوءة رجل سياسي مخضرم أو فراسة مفكر عميق كان يتمثل المشهد الراهن من مكتبه وبين دفاتره في الزمن الماضي وتطرح سؤالا مشروعا عن السيادة الوطنية وثنائية الأمن والحرية