محمد بشير ساسي
بالتزامن مع التصعيد العسكري الخطير واشتعال المعارك وضراوتها بين إسرائيل وحزب الله، تزدادُ المؤشرات أكثر من أيّ وقت مضى بأنّ الحرب الشاملة باتت “قدرا محتوما” بين الطرفين وخاصة من جانب تل أبيب التي تجاوزت برأي محلّلين كلّ الخطوط الحمراء وكسرت قواعد الاشتباك من أجل تغيير المعادلة في الجبهة الشمالية التي كانت تقوم على الردود المحسوبة والمتوازنة للمقاومة اللبنانية.
جبهة ملتهبة
فعلى عكس ما كان يروجّ من قراءات وتوقّعات بكون القتال سيظلّ منضبطا بكوابح وحسابات محدودة بالفعل و ردّ الفعل، فقد انزلق خارج دائرة الاشتباك الحدودي وتبادل القصف بين حزب الله والجيش الإسرائيلي لتمتدّ نار “محرقة غزة” إلى جبهة الإسناد في جنوبي لبنان التي ظلت لأشهر تستبطن الاستعداد لحرب كبرى كما وصفها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، مؤكّدا أنها تستحق الثمن الكبير الذي تدفعه المقاومة اللبنانية.
لقد فرضت عملية طوفان الأقصى على مدار الأشهر الماضية، تحوّلات على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة التي أصبحت “ملتهبة” بعد فترة هدنة طويلة أسهمت في تشجيع سكّان الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي، لإعمار المدن والقرى وإقامة مشاريع سياحية وصناعية وخدماتية وزراعية، “على قاعدة أنّ توازن الرعب بين الطرفين سيمنع اندلاع مواجهة جديدة منذ آخر حرب عام 2006، انتهت باتفاقيات غير موقّعة وغير مكتوبة بين إسرائيل وحزب الله وتبنّي مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار 1701 الذي دعا إلى وقف كامل للعمليات القتالية في لبنان.
ولأن الحروب المتتالية بين الطرفين أثبتت أنّ المتغيّر أكبر من الثابت، فقد علت النبرة هذه المرة في خطاب حزب الله الذي أكّد أنّ مشاركته في الحرب تصاعدية وتطوّرها مرتبط بأمرين: تطور مسار الحرب الإسرائيلية على غزة، وسلوك “العدو الصهيوني” تجاه لبنان، ما أعطى انطباعا بأنّ المقاومة اللبنانية جاهزة للتعامل مع كل ظرف عسكري أو سياسي مستجد وبكفاءة عالية وبقدرة على المبادرة دون تردّد.
في المقابل وضمن مناورته الأخيرة قرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في منتصف سبتمبر 2024 إضافة هدف جديد إلى أهداف الحرب التي يطاردها مثل السراب منذ 11 شهرا بحثا عن النصر، وهو “إعادة المستوطنين إلى بيوتهم في الشمال”، وذلك بعد سابقة إخلاء ما لا يقل عن 60 ألف إسرائيلي من المناطق الحدودية مع لبنان خوفا من أن يتكرّر معهم ما حدث لسكان مستوطنات غلاف غزة صبيحة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر الماضي.
مشرع نتنياهو
ووفق مراقبين لم يكن نتنياهو في حاجة إلى البحث عن مبرّرات للدفع إلى حرب مفتوحة مع الجبهة الشمالية على اعتبار أنّ هدفه مشروعه كان واضحا -منذ عودته إلى رئاسة الحكومة الأكثر تطرّفا في تاريخ الكيان الصهيوني- وهو العمل على تغيير الشرق الأوسط”، ولا يتعلق الأمر في نظره بالقضاء على حركة حماس فقط، بل بتفكيك أطراف “المحور” الذين يدعمونها، وفرض حقائق جديدة في المنطقة، وفق حساباته.
وزادت تصريحات المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين خلال زيارة مكوكية لإسرائيل ولبنان، يومي 17 و18 جوان الماضي بأنّ هناك شيئا ما يطبخ. ووفق مصادر لبنانية وجه هوكشتاين إنذارا مباشرا لرئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي بأنّ الولايات المتحدة ستطوي معارضتها لحرب إسرائيلية على لبنان، وأنّ الإسرائيليين يتحضّرون فعلا لهذه الحرب ما لم يبدأ حزب الله سحب قواته من جنوب الليطاني.
بعد أربعة أيام من الزيارة، سرَّبت مصادر أمريكية رسمية خبرا لوسائل الإعلام يفيد أنّ الولايات المتحدة ستشارك في الدفاع عن إسرائيل في حال نشوب حرب شاملة على الجبهة اللبنانية، دون أن تنشر قوات أمريكية في المنطقة.
في نظر نتنياهو، تبدو دروس حرب تموز 2006 مع حزب الله بعيدة، بينما يقفز فوق خسائره الراهنة في غزة، وهو يدرك خطورة توسيع المواجهة مع الحزب، وحجم الخسائر التي قد تتكبّدها إسرائيل، لكنه ينطلق من جملة من المتغيّرات والأسباب من بينها:
– ابتعاد خطر الحرب الإقليمية الشاملة بعد تردّد إيران في الردّ على إسرائيل إثر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها واستهداف قادتها من المستشارين والعسكريين في سوريا وكذلك قصف قنصليتها في العاصمة دمشق. وبالتالي يظهر كأنه إعلان لخروج طهران المفترض من معادلة الردّ، وأنّ التأثير العسكري لجبهات المساندة الأخرى في اليمن والعراق على إسرائيل سيكون ضعيفا ومحدودا.
– اعتبار نتنياهو وشقّ كبير من الإسرائيليين أنّ هذه هي فرصة تاريخية قد لا تتكرّر للتخلّص من خطر حزب الله وإعادته عقودا إلى الوراء لكون قدراته أضحت أضعف بعد سلسلة الاغتيالات في صفوف كبار قادته العسكريين.
– اعتقاد نتنياهو أنّ لم يعد لديه ما يخسره على المستوى الشخصي والسياسي من التصعيد مع حزب الله، وخوض الحرب التي يصورها للرأي العام الإسرائيلي كمعركة وجود وخلق واقع مختلف لسكان الشمال، ما دام المجتمع الإسرائيلي وفق تقديره أصبح متقبّلا بشكل ما للخسائر الكبيرة وكذلك مع الحرب الطويلة التي تؤجّل إمكانية محاسبته.
– ضمان منح الولايات المتحدة كل الدعم والحماية لإسرائيل تحت سقف ألّا تتحول المواجهة الواسعة مع حزب الله إلى حرب إقليمية شاملة.
– المراهنة على أنّ الرأي العام الدولي (الغربي خصوصا) سيكون مختلفا في مواقفه من المعركة مع حزب الله، ولن يضغط على إسرائيل كما حدث في حربه على غزة.
خياران أمام إسرائيل
بالمنطق العسكري مثّلت الضربات التي تلقّاها حزب الله من تفجيرات أجهزة النداء والأجهزة اللاسلكية واغتيال قادة الصف الأول (أهمهم إبراهيم عقيل وأحمد محمود وهبي فؤاد شكر) وقصف البنية التحتية الحربية ضربة قوية لفصيل يروج بكونه يتمتّع بقوة عسكرية، أضف إلى ذلك الخسائر بين المدنيين التي فاقت 600 شهيد بينهم الكثير من الأطفال والنساء، إضافة إلى آلاف الجرحى ومئات الآلاف من النازحين جراء الغارات الإسرائيلية على جنوب لبنان.
أمام هذا المشهد المرعب والمعقّد في الشرق الأوسط، تُسابق الجهات الإقليمية والدولية -التي تخشى تبعات الحرب- الزمن لاحتواء التصعيد قبل أن تصبح المواجهة الشاملة بين إسرائيل وحزب الله أمرا واقعا، وهي مواجهة سوف تكون لها تداعيات أوسع بكثير من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة التي تُشارف على إكمال عامها الأول.
في دراسة لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) صدرت في مارس الماضي، بعد أكثر من 5 أشهر على عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزة، خلص الباحثون إلى أنه في ضوء المشهد الإستراتيجي المتغيّر وقدرات حزب الله المتطورة، فإنّ هناك خيارين أمام إسرائيل للتعامل مع الجبهة اللبنانية عسكريا، وهما الانخراط في حرب محدودة مع حزب الله للضغط عليه وشغله على مدى زمني طويل، أو خوض حرب شاملة ضد الحزب في محاولة من الاحتلال لتدمير قدراته بضربة حاسمة.
1- سيناريو الحرب المحدودة: حسب محلّلين عسكريين يعني استمرار الصراع دون مستوى الحرب الشاملة، ولكن مع وجود ضربات إسرائيلية دقيقة تستهدف باستمرار قدرات حزب الله البشرية والمادية وبنيته التحتية، ومع توالي ردود أفعال الحزب على الضربات، تتطلّب هذه الخطة استمرار وتيرة الضربات الإسرائيلية بمعدّل زمني وقوة متناسبين، ويضمنان أن يكون فارق الخسائر في صالح إسرائيل وليس في صالح حزب الله. ويتضمّن سيناريو الحرب المحدودة قيام الاحتلال بغارات جوية إسرائيلية منتظمة بالقرب من الحدود، مع استمرار استهداف قادة حزب الله.
في المقابل سيستمر الحزب في المقاومة وإطلاق صواريخه على البنية التحتية العسكرية الإسرائيلية عبر الحدود بشكل يتناسب مع حجم الضربات الإسرائيلية، سواء بالضرب في العمق بالصواريخ ذات المدى المناسب، أو عبر شنّ هجمات بالصواريخ وقذائف الهاون على المواقع الإسرائيلية القريبة من الحدود، أو استهداف الدبابات الإسرائيلية القريبة، على أن تُعاير الهجمات بدقة بحيث لا تتخطّى السقف الذي يدفع إسرائيل إلى تخطي الحاجز الفاصل بين الضربات الموجَّهة والمواجهة الشاملة.
وحسب خبراء في هذا النطاق، فإنّ الهجمات الإسرائيلية في هذه الإستراتيجية سوف تركّز على المناطق التي يهيمن عليها حزب الله في جنوب لبنان، وضاحية بيروت، ووادي البقاع، بُغية تحقيق عدة أهداف على رأسها تعطيل الاقتصاد اللبناني الذي يعاني من انخفاض قيمة العملة، ما سيسبّب بالتبعية ضغطا سياسيا على حزب الله، إلى جانب دفع أنصار الحزب نحو مناطق أخرى من البلاد يمكن أن تشهد زيادة في التوتّرات الاجتماعية بوجودهم. لكن بعض المحلّلين يعتبرون أنّ ذلك قد يكون رهانا خاسرا، لأن من الصعب التنبؤ بالطريقة التي يتصرف بها اللبنانيون حين يعتقدون أنّ بلادهم تتعرّض لحرب من قِبَل إسرائيل.
هدف آخر محتمل للضربات الإسرائيلية هو إجبار حزب الله على فك الارتباط بين جبهة لبنان وجبهة غزة، حيث يربط الحزب بين إيقاف هجماته وبين وقف إطلاق النار في القطاع.
ويُعدّ تحقيق هذا الهدف أيضا بعيد المنال، في ظل التشابك بين الجبهتين منذ بدأت الحرب، والثمن السياسي والعسكري الباهظ للتراجع في الوقت الراهن. وقد خرج الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بنفسه في الآونة الأخيرة لوأد هذا السيناريو في مهده، مشدّدا على أنّ جبهة لبنان سوف تظل مرتبطة بجبهة غزة “مهما كانت الخسائر والتضحيات”.
2- سيناريو الحرب الشاملة: إذا بدأت حرب واسعة، فمن المرجّح أن يركّز جيش الاحتلال على ملاحقة مواقع حزب الله الصاروخية ومواقع انطلاق المسيرات. ورغم أنّ إسرائيل ستستهدف قيادة حزب الله والمواقع العسكرية في بيروت وفي وادي البقاع، فمن المرجّح أن تركّز معظم جهودها على وجود حزب الله بالقرب من الحدود، ومحاولة دفع مقاتليه بعيدا عنها، ربما إلى الجانب الآخر من نهر الليطاني، الذي يبتعد عن حدود الاحتلال مسافة نحو 30 كيلومترا.
من المرجّح أن تكون الخطوة الأولى لجيش الاحتلال في هذا السيناريو هي حملة جوية ضخمة تهدف إلى تدمير قدرات حزب الله الصاروخية ومراكز القيادة. في الواقع، هناك تصورات بأن الغارات الجوية الحالية تُعدّ مقدمة لتلك الحرب الشاملة.
وفي حال صحَّت هذه التوقّعات، فمن المتوقّع أن ينفّذ سلاح الجو الإسرائيلي ضربات على مواقع إطلاق وتخزين الصواريخ ومراكز القيادة وشبكات النقل مستخدما الذخائر الموجَّهة بدقة، وربما تكون تلك الضربات الجوية مصحوبة بهجمات صاروخية من البحر اعتمادا على البيانات الاستخباراتية القادمة من المسيرات والأقمار الصناعية والمصادر الأرضية، لتحديد مستودعات الصواريخ وقاذفاتها ومراكز القيادة التابعة لحزب الله.
لكن مراقبين يشكّكون في اقتصار جيش الاحتلال على هذه الأهداف العسكرية، والتي عادة ما يصاحبها استهداف لمدنيين تحت ذريعة استهداف مواقع عسكرية تماما كما جرى في استهداف مستشفى المعمداني ومستشفى الشفاء في غزة، وذلك لتشكيل ضغط مستمر على الحاضنة الشعبية
كما سيتعيّن على جيش الاحتلال الإسرائيلي التوغّل لمسافة أبعد بكثير في عمق الأراضي المعادية تمتد إلى عشرات الكيلومترات والسيطرة عليها لفترة كافية لضرب البنية التحتية العسكرية لحزب الله، وخاصة الصواريخ والقذائف، قبل الانسحاب، مع الاحتفاظ بخط سيطرة قوي نسبيا بعمق كيلومترين إلى ثلاثة كيلومترات.
ترسانة حزب الله
تدرك إسرائيل مزايا المرونة الفائقة التي يتمتع بها حزب الله حتى تحت أشرس الضغوط. ففي تقرير بعنوان “النار والدم: الواقع المخيف الذي تواجهه إسرائيل في حرب مع حزب الله”، أصدرته جامعة “رايخمان” الإسرائيلية في وقت مبكر من العام الحالي، توقّع المحلّلون أن تستمر الضربات الصاروخية من حزب الله (وحلفائه) بمعدّلات تتراوح بين 2500-3000 صاروخ وقذيفة يوميا لأسابيع متتالية، بما في ذلك الصواريخ الأقل دقة والصواريخ الدقيقة بعيدة المدى، مستهدفة المواقع العسكرية الإسرائيلية، فضلا عن المدن ذات الكثافة السكانية العالية في وسط البلاد.
واعتمد التقرير على التقديرات التي أشارت إلى أنّ حزب الله أطلق خلال حرب 2006 التي استمرت 34 يوما نحو 4000 صاروخ، أي بمعدّل يومي بلغ 117 صاروخا، ثم قيست معدّلات تلك الضربات وقورنت بما يمتلكه حزب الله في ترسانته الصاروخية حاليا. وتشير التقديرات إلى أنّ الحزب بات يملك ما بين 120و200 ألف صاروخ، تتنوع في مداها وقدراتها، وهي تشمل مئات الصواريخ الدقيقة ذات القدرة التدميرية العالية، فضلا عن الدعم الذي سيتلقّاه الحزب من حلفائه في ظل وجود خط إمداد مفتوح عبر سوريا والعراق وصولا إلى إيران نفسها.
في عام 2006، كانت حيفا، ثالث أكبر مدينة في الأراضي المحتلة، في مرمى صواريخ حزب الله، وهذه المرة تصل هذه الصواريخ إلى عمق أكبر داخل إسرائيل. ويمكن لإطلاق القذائف بهذا المعدّل أن يتحدّى التكنولوجيا الإسرائيلية بشكل لم يسبق له مثيل، وربما يستنفد مخزون صواريخ القبة الحديدية الاعتراضية وصواريخ مقلاع داود في غضون أيام قليلة من القتال، مما يترك إسرائيل عرضة لآلاف الصواريخ والقذائف دون دفاع نشط فعال.
يمتلك حزب الله دبابات في المقابل لكنها أقل تقدُّما وعددا، مثل (تي-54″- “تي-55 – “تي-62” – “تي-72) وجميعها من الحقبة السوفياتية، وهذه من شأنها أن تلحق أذى كبيرا بالقوات الإسرائيلية حتى لو لم تكن قادرة على حسم المعركة.
كما يمتلك حزب الله عددا من العربات المدرعة الأحدث والأكثر أهمية بالنسبة إلى مقاتليه، والواقع أنّ السلاح الرئيسي لحزب الله لمواجهة الدبابات الإسرائيلية لن يكون الدبابات، بل القذائف المضادة للدبابات، التي أعطت ثقلا للمقاومة الفلسطينية في غزة ضد الدبابات الإسرائيلية، ويمتلك حزب الله العديد من أنواع هذه القذائف، وينطلق الكثير منها من “آر بي جي 7″، وهو السلاح نفسه المستخدم لإطلاق قد قذائف الياسين التي تُنتجها وتطوِّرها كتائب القسام.
يستخدم حزب الله حاليا أيضا نظام صواريخ موجَّهة مضادة للدبابات، يُسمى “ثار الله”، الذي صُمِّم للتغلب على نظام الحماية النشط الذي تستخدمه دبابات ميركافا خصوصا، كما أفادت العديد من منافذ الأخبار في أواخر جانفي 2024 أنّ حزب الله استخدم صاروخ “كورنيت-إي إم” الأكثر تقدُّما لمهاجمة قاعدة مراقبة جوية إسرائيلية، وهو ما يُعدّ زيادة كبيرة في مدى الصواريخ المضادة للدبابات وقوتها التدميرية.
مستنقع الجنوب
يفهم مما سبق أنّ التوافق العسكري الإسرائيلي لا يكفل النصر الذي يبحث عنه نتنياهو في جنوبي لبنان مثلما هو الحال في مستنقع غزة. والحديث عن الحرب البرية أسهل بكثير من تجربتها، وأول مَن يعرف ذلك هي إسرائيل نفسها بعد تجاربها المتكررة في غزة. فقد كانت حرب لبنان عام 2006 نموذجا للقتال بهذا النوع من الصواريخ، حيث أُصيبت العديد من الدبابات الإسرائيلية ودُمِّر بعضها تماما. وخلال محاولة اخترق جيش الاحتلال عمقا أقل من 3 كيلومترات في حروبه في قطاع غزة في أعوام 2008 و2009 و2014، وحتى في حربه الأخيرة لم يتمكّن الاحتلال من السيطرة على مساحات واسعة من الأرض وتأمينها لفترة طويلة، وسرعان ما كان يفقد سيطرته على الأراضي، أو تكون سيطرته على منطقة ذات تكلفة استنزاف عالية كما يجري اليوم في محور نتساريم بقطاع غزة.
وبالتوازي مع ذلك وظّفت إسرائيل الرقابة العسكرية المشدّدة للتكتم والتعتيم على الأضرار والخسائر التي تتكبّدها الجبهة الداخلية الإسرائيلية في الشمال، منذ إطلاق حزب الله عملية “الحساب المفتوح”، في وقت تتعمّد فيه المؤسسة الإسرائيلية وأذرعها الإعلامية تسليط الضوء على الهجمات التي يشنّها الجيش الإسرائيلي على جنوب لبنان والضاحية الجنوبية في بيروت. وخلافا لما كان سائدا على الجبهة مع قطاع غزة -حيث يسمح الجيش الإسرائيلي بنشر الخسائر والأضرار المدنية والعسكرية جراء القصف الصاروخي لحركة حماس والهجمات التي تشنّها فصائل المقاومة الفلسطينية- ترفض إسرائيل الكشف عن خسائر قصف حزب الله.