لايف ستايل

حتى غارلين مرّ من هنا… « موسم التقطير » حين تفوح الزهور في البيوت التونسية

رحمة الخنتوش

ما إن تتفتح بتلات الزهر أو النارنج والورد في تونس وتفوح رائحة الربيع منها، حتى تستعد العائلات لاستخراج رحيقها وتقطيره للحصول على ماء شفاف يضاهي الذهب في قيمته.

في أواخر شهر مارس/ آذار وبحلول شهر ماي/ أيار من كل عام، يغمر عبق الزهر أو النارنج الوطن القبلي في تونس، الذي يشتهر بصناعة  ماء الزهر وتقطيره لاستخراج أثمن ما في الزهور من سوائل مركزة معطرة، يشببها البعض بالذهب الشفاف.

عادات متوارثة
موسم تقطير الورود  من أقدم  المواسم وأعرقها على الإطلاق في تونس،  لما يمتاز به من طقوس خاصة تشارك فيها جميع فئات المجتمع وهو قطاع يشغل يدا عاملة كبيرة ويعود بالنفع على العديد من الأسر.

في مثل هذه الفترة من كل عام، تزدهر تجارة بيع زهور النارنج والورد و”العطرشية” وتزين جميع الأسواق بأشكالها وألوانها الجميلة. ويتراوح سعر الكيلوغرام الواحد من النارنج بين 5 و7 دنانير، ويتراوح سعر الكيلوغرام الواحد من الورد بين 10 و15 دينارا، أما “العطرشية” فتباع على شكل باقات كبيرة الحجم ويتراوح سعرها بين 5 و6 دنانير.

تقبل النساء بكثافة على اقتناء الأزهار العطرية لتقطيرها والحصول على مائها الصحي والعطري للاستعمال اليومي وتخزين المؤونة منه. ويستعملنه في إعداد الحلويات والقهوة ولتخفيض حرارة الجسم في فصل الصيف أو الوقاية من  الشمس، بالإضافة إلى استعماله في التجميل والحفاظ على نضارة البشرة وصفائها.

عملية تقطير الزهر أو الورد تحتاج إلى تقنيات وأدوات خاصة، تستهلها النساء بشراء أو قطف الزهرات ثم تنظيفها جيدا بالمياه للتخلص من الأتربة والشوائب العالقة بها، ثم تجفيفها جيدا من قطرات المياه.

وهنا تأتي مرحلة التقطير التي تستمر ساعات طويلة، وتستعمل النساء في هذه العملية التقليدية الموروثة منذ مئات السنين، وعاء طبخ خاص تقليدي يسمى “القطار” الذي يصنع إما من النحاس أو الفخار. يتكون هذا الإناء من قسمين اثنين هما الجزء السفلي الذي توضع فيه زهرات النارنج أو الورود ولا يجب أن تتجاوز الكمية كيلوغرامين اثنين بعد غمرها بالماء الذي لا يجب أن يزيد عن 7 لترات. ثم تغطى بجزء علوي يكون على شكل وعاء  يوضع فيه الماء ويكون متصلا بأنبوب طويل يخرج منه عطر النارنج أو الورد الذي يسمى “ماء الورد” أو “ماء الزهر”.

تحتفظ النساء عادة بماء الورد والزهر والعطرشية في أوعية بلورية خاصة اسمها “الفاشكة”. وتتبارك العائلات بتخزينه في بيوتها اعتقادامنها بأنه جالب للحظ،  لأن”الحظ” في تونس يسمى “الزهر”.

طريق الورد وبيت غارلين

أما الزيوت الأساسية للعطور وخاصة زيت الزهر المعروف باسم “النيرولي” فيكتسي شهرة عالمية لاستعماله في مجال صناعة العطور الرفيعة. وتستخدم دار العطور الفرنسية الشهيرة غارلين مستخلص النيرولي لصناعة أشهر عطورها. وكشفت في وقت سابق أن « الأنف » في دارها تيري واسير (أي المختص في شم العطور واختيارها) كان يجوب لسنوات مزارع تازركة وبني خيار ومنزل بوزلفة شمال شرقي تونس لاختيار أجود أصناف الورود ومستخلصات النيرولي لاستخدامها في تركيبة العطور الفواحة والمطلوبة عبر العالم.

عيد العائلات في نابل
نبتة الزهر تحظى بمكانة خاصة في تونس، وخاصة في منطقة الوطن القبلي، فهي تتعدى أن تكون شجرة عادية كونها تتمتع بمكانة اجتماعية واقتصادية مهمة. بالإضافة إلى أنها مورد رزق أكثر من 3000 عائلة “نابلية”، فإنها تساهم بشكل كبير في تحريك العجلة الاقتصادية على امتداد شهر واحد من كل عام.

وتمسح غابات إنتاج الزهر في منطقة نابل 460 هكتارا، تنتج سنويا ما بين 1000 و1400 طن من الزهر. وعادة ما يتم تقطير 60% من كميات الزهر بطريقة عصرية، في حين يتم تقطير 40% من المنتوج بالقطار التقليدي.

موسم حصاد الزهر وتقطيره يشبه المهرجان في الوطن القبلي، فتجتمع العائلات وسط أجواء تتخللها الأهازيج والضحكات لقطف المحصول  العطر وتقطيره. وتتحول البيوت إلى خلايا نحل فتقسم الأدوار فيما بينها احتفاء بالموسم.