تونس ثقافة

جوهر الصقلي.. القائد القيرواني الذي أسس “المحروسة” وبنى الجامع الأزهر 

قائد عسكري وسياسي بارع انطلق من القيروان وأسس القاهرة وضم مصر إلى حكم الفاطميين 

 

جمع ما بين الحزم العسكري والعزم في اتخاذ القرارات والبأس في القتال، والدبلوماسية في فن السياسة التي أتقن ألوانها في بلاط الفاطميين بالمهدية، حيث نشأ قائدا بالفطرة بفضل نبوغه ومهاراته المختلفة مع ما عرف به من قوة احتمال وصبر وحبه للعمل العسكري والمشاركة في القتال التي ورثها عن أجداده الصقليين الذين اشتهروا في حوض المتوسط بكونهم مقاتلين أشداء.

هو جوهر الصقلي القائد القيرواني النشأة والهوى، الذي صنع التاريخ بسيفه وقلمه، ونقش اسمه في ذاكرة التاريخ العربي والإسلامي ببناء القاهرة “المحروسة”، العاصمة التي ستصبح درة الفاطميين وأحد أعظم الحواضر الإسلامية.

من صقلية إلى بلاط المعز 

ولد  أبو الحسين جوهر بن عبد الله،سنة 312هـ/ 924م، في جزيرة صقلية، ويقال إنه كان في الأصل من أصول يونانية، ونقل وهو صغير إلى المهدية عاصمة العبيديين، حيث تربى في بلاط الخليفة المعز لدين الفاطمي، 

والذي توسم فيه الذكاء والفطنة فعني بتثقيفه وتعليمه وتدريبه في مجالات مختلفة، وأظهر نبوغا فيما أسند إليه من أعمال.

تدرج جوهر في المناصب داخل الدولة الفاطمية، حتى أصبح أحد أهم قادتها، وبرزت مهاراته العسكرية في عهد الخليفة المعز لدين الله، حيث أظهر قدرات فائقة في إدارة الحملات العسكرية وقياداتها.

في عام 969 م، عزم المعز على أن يضم مصر إلى حكمه، ولم يجد أفضل من القائد جوهر ليحمل مسؤولية هذه المهمة الاستثنائية التي غيرت مجرى التاريخ العربي والإسلامي.

لم يكن الحملة على مصر هينة، فرغم أنها كانت حينها تحت حكم الدولة الإخشيدية التي أنهكتها الصراعات، إلا أنها كانت سياسيا تتبع الخلافة العباسية في بغداد، ما جعل من المعركة أبعد من مجرد مواجهة عسكرية.

 وظّف جوهر الصقلي دهاءه السياسي، فدخل الفسطاط عاصمة مصر القديمة دون إراقة دماء بعد مفاوضات ضمنت ولاء المصريين وحفظت البلاد من الدمار.

بناء القاهرة

بعد أن استقر الأمر لجيش الفاطميين، شرع جوهر في تأسيس مدينة جديدة لتكون مقرا للخلافة فاختطّ القاهرة، وجعلها محصنة بأسوار قوية، وبنى فيها القصور والمساجد، وأرسى دعائم الحكم الفاطمي.

ووضع القائد أساس العاصمة الجديدة، في الشمال الشرقي للفسطاط، فبنى سورا خارجيا من الطوب اللبن يحيط بمساحة تبلغ 340 فدانا، جعل سبعين منها للقصر الكبير مقر الحكم والسلطان، وخمسة وثلاثين فدانا للبستان، ومثلها للميادين، وتوزعت المساحة المتبقية على الفرقة العسكرية، وكان ذلك نواة لعاصمة الدولة الفاطمية في المشرق، التي سميت في بادئ الأمر بالمنصورية، ثم عرفت بعد ذلك بالقاهرة.

لم يكتف القائد القيرواني ببناء عاصمة جديدة للحكم، لينطلق في إنشاء أحد أبرز المنارات العلمية والدينية والحضارية في العالم الإسلامي، وهو الجامع الأزهر، والذي يعد أحد أعظم إنجازاته.

عقب وصول الخليفة المعز لدين الله إلى القاهرة، ابتعد جوهر الصقلي عن دواوين مصر، ولم يعهد إليه الخليفة بمهام جديدة، حتى ظهر خطر القرامطة في بلاد الشام، والذين باتوا يشكلون خطرا محدقا ، ما دفع المعزو إلى الاستعانة مجددا بقائده جوهر لدفع هذا الخطر.

ظل جوهر الصقلي بعيدا عن المناصب الرسمية حتى وفاة المعز لدين الله وتولي الخليفة العزيز بالله الفاطمي، حيث شهد عهده تجدد الخطر القرمطي في الشام، ولم يجد الخليفة بدا من الاستعانة بجوهر اعترافا بكفاءته وقدرته، فتولى قيادة الحملة التي زحفت إلى بلاد الشام.