ضمن قسم “مسرح العالم”، وفي إطار فعاليات الدورة الـ23 لأيام قرطاج المسرحية احتضنت قاعة المونديال عشية أمس الأحد 4 ديسمبر/كانون الأول، العرض العراقي البلجيكي “جمهورية الخوف” للمخرج حسن خيون في قراءة معاصرة لكتاب كنعان مكية الحامل للعنوان ذاته.
ينطلق العرض بتصدير على الشاشة الكبيرة آخر الخشبة يحذّر: “انتبه لما تقوله فقد يكلّفك ذلك حياتك”، ليدرك المُشاهد مباشرة أنه أمام عمل يدنو من الأخطار التي يواجهها المواطن العربي جرّاء الإفصاح عن أفكاره ومواقفه.
خوف مُتوارث
يسترسل النص موضّحا أنه، في زمن مضى، كان الخوف يمنع الناس من الكلام… الخوف من بطش صدام حسين، أما الآن فالخوف له أكثر من مصدر، إذ يمكن للمرء نقد النظام والسلطة الحاكمة والوزراء. لكن لا يمكنه الاقتراب من المليشيات المسلحة التي قد تتهمه بالتعامل مع أمريكا وإسرائيل، تلك المليشيات التي أحكمت قبضتها على وسائل الإعلام وصارت بوقا لها.
هكذا يضع النص المُشاهد في قلب موضوع العرض، في قلب الخوف العربي، وتحديدا الخوف العراقي الذي سكن القلوب والعقول وتحت الجلد المرتجف لمجرّد تذكّر ما حدث هناك.
وما حدث لا يمكن نسيانه أو تجاوزه حتى برحيل العراقي إلى بلجيكا مملكة الحريات والديمقراطية، حيث يعيش الصديقان (بطلا العرض)، ويفترض أنهما يتمتعان في الساونا (حمام عصري) بكل وسائل إراحة الجسم وتخليصه من التوتّر.
لكن ما يمنعهما من بلوغ تلك الحالة من الاسترخاء هي “ذاكرة الوجع” التي يحملانها، رغم مرور سبعة عشر عاما على الإطاحة بحكم صدام حسين.
في بلد الحريّات يعيش الصديقان واقعا سرياليا عاجزين عن التكيّف مع الراهن الجديد الذي يبعد آلاف الكيلومترات عن الماضي المثقل بالوجع والخوف. يبدو أحدهما ساخرا مقبلا على الحياة يعدّد مزايا البلد المضيف، وما يوفّره من راحة وأمان وأجواء مرحة في الملاهي ونوادي السهر.
في المُقابل، سرعان ما يسقط قناع السخرية عندما يُواجه الصديق الساخر مواقف صديقه والخوف الذي يُلازمه في كل خطوة يخطوها في الخارج، ومن كل شخص يمرّ بجانبه حتى وإن كان شرطيّ مرور… “الخوف هو سبب كل الخسارات التي تكبّدها الإنسان”، هكذا يقول الصديق لرفيقه.
بوح إنساني
“جمهورية الخوف” بوح إنساني يتشكّل عبر السرد، بُنية بصرية ولغوية تعمل على تفكيك مفهوم الهوية ومعاناة جسد غادر مكانه، ويقاوم للعيش في مكان آخر له شروطه ومتطلباته.
تزداد الصورة وضوحا عندما يجلس الصديقان تباعا أمام كاميرا لتقديم ما يشبه الشهادة أو السيرة الذاتية، فيقول الأول الساخر إنه ولد سنة ألف وتسع مائة وحرب، لا يذكر من سنوات عمره سوى أن بلاده تنتهي من حرب وتدخل أخرى، وأن نشرات الأخبار كانت تحصي عدد القتلى كأنها تسوق خبرا عاديا، وأن المنظمات الحقوقية كانت تستنكر وتندّد بينما تزداد أعداد القتلى.
أما صديقه قليل الكلام الرافض لكل وسائل الترفيه المتاحة في بلد الحريات، فقد اعتبر أن الأمل في حياة أفضل يحمله الجيل الجديد الذي اعتبره “المُخلّص” من الحروب العصبية العرقية والمليشيات.
بديكور بسيط وإضاءة ثابتة وبثّ بعض المشاهد والنصوص عبر تقنية الفيديو، جاء عرض “جمهورية الخوف” في حيّز زمني لم يتجاوز الساعة، مُلخّصا وجع جيل عراقي كامل لم تترك له الحروب المتتالية سوى “ذاكرة وجع” وخوف تغلغل في الجسد وسكن العظام، ليترك الجسم عاجزا عن طلب المتعة وممارستها، يُقاوم للعيش في مكان آخر رغم اختفاء وجه القاتل. لكن الحكام الجدد بعثوا خوفا جديدا بقواعد لعبة مختلفة.