جزيرة تايوان.. السيناريو الكارثي
tunigate post cover
رأي

جزيرة تايوان.. السيناريو الكارثي

الملف الشائك لجزيرة تايوان ليس إلّا حلقة واحدة من تعقيدات كثيرة تحيط بالعلاقات الصينية الأمريكية، ومسارا طويلا من التنافس لتكوين تحالفات إقليمية ودولية
2023-05-25 23:32



محمد بشير ساسي
جدّدت الحرب الروسية على أوكرانيا الجدل والنقاشات في قمم الدول السبع الكبرى ودوائر القرار ومراكز البحوث في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، حول ردّة فعل واشنطن إذا ما أقدمت بكين على خطوة مشابهة للهجوم الروسي ضدّ جزيرة تايوان.ورغم أنّ التنافس بين الدولتين النوويتين، ظلّ يدور في فلك حرب باردة على صعيد ملفات عدة، فإنّ خلافهما بشأن تايوان يعتبر القضيّة الوحيدة التي يُحتمل أن تثير مواجهة مسلّحة ولذلك أضحت الجزيرة “أخطر” مكان على وجه الأرض، كما وصفتها مجلة “إيكونوميست” البريطانية.

غضب صيني
فمنذ زيارة الرئيسة السابقة لمجلس النواب نانسي بيلوسي لتايوان -وهي أرفع مسؤول أميريكي يقوم بهذه الخطوة منذ 25 عاما- عادت بكين “الغاضبة” من الزيارة لتضيّق الخناق حول تايوان -التي تعدّها جزءا من أراضيها ووعدت بـإعادة توحيدها بالقوة إذا لزم الأمر- لدرجة أنّها في مناورة عسكرية في أفريل الماضي طوّقت بشكل كامل هذه الجزيرة.
 كما أنّ طائرات بكين تدخل المجال الجوي التايواني بشكل شبه يومي لاختبار مقاومة وأعصاب “فورموزا” (المعروفة حاليا بتايوان)، في رسالة تحذيرية إلى استعداد الجيش الصيني “لسحق” أيّ شكل من أشكال انفصال الجزيرة، التي تصرّ الولايات المتحدة على بيعها أسلحة دفاعية وتقديم مساعدات عسكرية لها.

فُهمت الرّسالة الصينية القوية من قبل الولايات المتحدة بكون الأخيرة يجب أن تدفع ثمن خطئها بانتهاك سياسة “الصين الواحدة”، وبالتوازي تحوّل الخطاب في البيت الأبيض من “الغموض الاستراتيجي” إلى “التصريح العلني” بشأن هذه الجزيرة، إذ ظلّ الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال المؤتمرات والمقابلات الصحفية يجيب عن سؤال عمّا إذا كانت القوات الأميريكية ستدافع عن تايوان، مؤكّدا أنّ لدى واشنطن التزاما بهذا الشأن إذا تعرّضت لهجوم صيني غير مسبوق، وأُعيدَ تأكيده بصوت جماعي واحد في ختام قمة هيروشيما اليابانية في رسالة قوية من مجموعة الدول السبع الكبرى تجاه بكين ضدّ أيّ تغيير للوضع الراهن في ما يتعلّق بتايوان بالقوة المسلّحة.

ووفق مراقبين، يُرجع تبنّي الإدارات الأمريكية المتعاقبة مبدأ “الغموض الاستراتيجي” تجاه الصين، إلى سببين:
أولا: عدم وضوح ظروف التدخّل الأمريكي الذي يحرم المخطّطين العسكريين الصينيين من إدراك حدود المناورة مع الولايات المتّحدة. وقد أجبر الغموض الاستراتيجي بكين على افتراض تدخّل واشنطن حال شنّ هجمات أو محاولة غزو على تايوان.
ورغم أنّ ميزان القوى بمنطقة مضيق تايوان يتغيّر لصالح الصين، فإنّ الخبراء يعتقدون أنّ بكين ما تزال بعيدة عن امتلاك قوات متقدّمة تمكّنها من النجاح في الاستيلاء على تايوان.
ثانيا: يعتقد الأمركيون أنّ “الغموض الاستراتيجي” يشكّل رادعا ضدّ أولئك الذين قد يميلون إلى إعلان الاستقلال داخل تايوان، فواشنطن تدعم الحكم الذاتي فقط للجزيرة، ومن المؤكّد أنّ إعلان استقلالها رسميا من شأنه أن يؤدّي إلى اندلاع أزمة. 

لكن اليوم ومن خلال ردّها على الغزو الروسي للجارة أوكرانيا، أظهرت واشنطن للعالم ما يمكن توقّعه إذا قامت بكين بمحاولة غزو تايوان، حيث أنتجت عدة “سيناريوهات” عسكرية وتقارير استخباراتية تصوّر بكين بشر لا بدّ منه، وتعزّز وجهة النّظر المروجة بأنّ الملفّ على صفيح ساخن أكثر من أيّ وقت مضى.. فكيف تقيّم الولايات المتّحدة الأجواء الساخنة؟ وماهي المآلات المنتظره على مضيق تايوان؟

نتائج كارثية
في آخر تقرير -نشره مركز بحثي أمريكي لمحاكاة حرب أمريكية صينية في حال إقدام الصين على غزو تايوان- إلى توقّع نتائج كارثية خلال أيام بعد بدء قتال قد يطول مداه، سيكون مختلفا عن أيّ صراع شهدته الولايات المتّحدة أو الصين في تاريخهما الحديث.
وكشف مركز الأمن الأمريكي الجديد “سي إن إيه إس” (CNAS) -المعروف بقربه من الحزب الديمقراطي وإدارة الرئيس جو بايدن- أنّ الصين إذا قرّرت غزو تايوان وتدخّلت الولايات المتحدة لمنعها من السيطرة على هذه الجزيرة، فإنّ التّكاليف البشرية والاقتصادية والعسكرية ستكون هائلة لجميع الأطراف المعنية.

ويتناغم هذا التقرير في الواقع مع ما دأب على ترويجه جهاز الاستخبارات الأمريكية من تقارير تشير إلى أنّ الرئيس الصيني شي جين بينغ، أبلغ جيشه بأنّه يريد أن تكون لدى الصين القدرة على السيطرة على تايوان بالقوة بحلول عام 2027.
ويفسّر محلّلون أنّ المناورات العسكرية الأخيرة التي حاكت تطويق تايوان بالكامل وفرض حظر جوي على شمال الجزيرة لمدة نصف ساعة، هي رسالة لا تقبل أيّ قراءة سوى أنّ الساحة باتت مهيّأة لحدوث سيناريوهات مرعبة في أهم مجال جيواستراتيجي في شرق آسيا.

صعود عسكري
فالسياقات التي يتحرّك ضمنها الملف التايواني مختلفة عمّا كان عليه عام 1995، عندما لم يحتج الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون إلّا لإرسال حاملتي طائرات لإخماد توتّر في مضيق تايوان، وهو طريق بحري أساسي للتجارة العالمية.
في تلك الحقبة لم يكن الجيش الصيني يضاهي القوة الأمريكية، وهو ما تغيّر الوقت الحالي. فالصين الثالثة عالميا من حيث ميزان القوة العسكرية بنت بصبر ما يكفي لخوض حرب مع أمريكا. ووفق تقديرات معهد “ستوكهولم” الدولي لأبحاث السلام، تنفق على جيشها نحو 25 ضعفا لما تنفقه تايوان، وهو ما يقارب 252 مليار دولار سنويا. 

ولدى بكين أيضا ميزة تقليدية واضحة في كل شيء من الصواريخ والطائرات المقاتلةإلى السفن الحربية ومستويات القوات، والعدد الإجمالي للعناصر البشرية الذي يتجاوز ثلاثة ملايين -ما بين جنود الخدمة والاحتياط والقوات شبه العسكرية – فضلا عن امتلاكها مخزونا تخطّى 400 رأس نووية مع توقّعات بأنّ يرتفع العدد إلى 1500 بحلول العام 2035، وفق تقارير صادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك كشفت الوثائق المسرّبة من البنتاغون عن قدرة الصين على استهداف شبكة أمريكا للمراقبة والأقمار الاصطناعية التي تدور في مدارات خلال وقت الحرب.

ساحات الصراع
إنّ الملف الشائك لجزيرة تايوان ليس إلّا حلقة واحدة من تعقيدات كثيرة تحيط بالعلاقات الصينية الأمريكية، ومسارا طويلا من التنافس لتكوين تحالفات إقليمية ودولية وصفها ذات مرة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأكبر اختبار “جيوسياسي” في القرن الحادي والعشرين. فما هي أبرز ساحات الصراع بين العم سام الأمريكي والتنين الصيني؟

1- المحيطان الهندي والهادي:
تتوافق الرؤية الأمريكية مع اتّجاهات القوى الوسطى في منطقة المحيطين الهندي والهادي “الإندوباسيفيك” -أبزر مركز للجغرافيا السياسية في القرن 21- حول أهمية تعزيز شبكة من التحالفات عبر عسكرة اليابان وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى شراكات أمنية أكثر حداثة أُقيمت شرقا مع كلّ من الفلبين، فيتنام، سنغافورة، وإندونيسيا، والأهم من ذلك مع الهند.
كما وقّعت الولايات المتحدة الأمريكية أيضا اتّفاق “أوكوس” الذي هو في مضمونه عبارة عن شراكة أمنية ودفاعية بين (أمريكا وبريطانيا وأستراليا)، تقوم بمقتضاه واشنطن ولندن بتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، ممّا يضمن لهذا التحالف قوة من أجل تقليص توسّع نفوذ الصين خاصّة في جزر المحيط، وأبرزها جزر سليمان أو “سولومون” التي وقّع وزير خارجية الصين مع حكومتها اتّفاقا أمنيّا واقتصاديّا أثار غضب الولايات المتّحدة ومن ثم أستراليا والمملكة المتّحدة، فقد كانت الجزر قبل أن تتحوّل إلى الصين تتمتّع بعلاقات طيبة مع تايوان عدو الصين اللدود حتى عام 2019.

2- أوروبا:
يعدّ الموقف الأوروبي فاعلا في مسار التنافس الأمريكي-الصيني؛ إذ تبرز مصلحة مشتركة صينية – أوروبية في تشكيل نظام عالمي متعدّد الأقطاب يتجاوز الهيمنة الأمريكية، وهو ما ينعكس على السلوك الأوروبي المتحفّظ على الصرامة الأمريكية في التعامل مع الصين، التي يُنظر إليها أنّها تمتلك مفاتيح الحل بشأن الملف المؤرق بالنسبة إلى الدول الغربية وهو الحرب الأوكرانية.

وتشير معطيات مؤسّسة “يوروستات” للإحصاء التابعة للاتّحاد الأوروبي، إلى أنّ بكين تحوّلت في العام 2022 إلى أكبر مصدر للبضائع نحو الاتّحاد الأوروبي، حيث تستورد أوروبا 20% من حاجياتها من البضائع من الصين، في المقابل فإنّ الأخيرة هي ثالث زبون للبضائع الأوروبية، وتستقبل الصين 9% من البضائع الأوروبية الموجّهة إلى التصدير.

كما تحوّلت العلاقات التجارية إلى ورقة قوية في يد الصين، خصوصا في السنوات الأخيرة، ويبلغ حجم المبادلات التجارية بين بكين والاتّحاد الأوروبي 856 مليار دولار، منها 626 مليارا عبارة عن واردات أوروبا من الصين، و230 مليار دولار واردات الصين من أوروبا، ليبلغ حجم العجر التجاري بين الطرفين 395 مليار دولار لصالح بكين.

3- الشرق الأوسط:
أظهرت واشنطن جدية كبيرة في عدم التّفريط في نفوذها بمنطقة الشرق الأوسط لصالح الصين رغم تبنّيها سياسة الانسحاب منذ إدارة أوباما الثانية، والذي تعزّز بصورة لا تدع مجالا للشك منذ قدوم إدارة بايدن.
كلّ هذا فرض على واشنطن الإبقاء على روابط قوية مع القوى الإقليمية، خاصة السعودية وتركيا ومصر، وحتى إسرائيل التي استمالتها بكين بصفقات عسكرية أو تعاون في التكنولوجيا المتقدمة وخاصّة مشروعات استراتيجية مثل ميناء حيفا أو قاعدة أبوظبي.
كما حقّقت الصين خطوات استراتيجية من خلال ضم إيران في شراكة طويلة الأجل، وضم باكستان لمبادرة “الحزام والطريق” وقد أمّنَ لها وجودها في ميناء “جوادر” مكانا استراتيجيا على بحر العرب، يتكامل مع تواجدها العسكري الواسع في جيبوتي على باب المندب.

4- إفريقيا:
مع تراجع الاحتلال المباشر للدول الإفريقية بالمقارنة مع القرن الماضي، يتصاعد في المقابل الحضور التكتيكي للقوى الدولية عسكريا واقتصاديا خاصّة بين أمريكا والصين.
وحسب دراسة نشرها معهد “سيبري” المتخصّص في رصد الصفقات العسكرية في العالم، بلغ حجم الصادرات الأمريكية في الفترة الممتدّة من عام 2000 لغاية 2018 نحو 10.34 مليار دولار، فيما بلغ حجم صادرات الصّين في الفترة نفسها نحو 4.13 مليار دولار.
ورغم التفوّق العسكري الأمريكي إلّا أنّ “التنين الصيني” نجح في قلب المعادلة اقتصاديا وبات أكبر مورد للسلع لأكثر من 30 دولة في القارة خلال العقدين الأخيرين، حيث قفزت قيمة الصادرات الصينية إلى الدول الإفريقية من 5 مليار دولار إلى 110 مليارات. وخلال عام 2021، ارتفعت قيمة التجارة بين إفريقيا والصين بنسبة 35٪ لتصل إلى 254 مليار دولار.

وبملاحظة المؤشّرات العسكرية والاقتصادية تبقى العوامل المؤثّرة في تحديد أوزان كل من الولايات المتحدة والصين في النظام الدولي مستقبلا، مرتبطة بمدى قدرة كل طرف على مجاراة نسق عدة ملفات معقّدة أبرزها الحرب الروسيّة على أوكرانيا وتداعيتها.

وحتى مع افتراض أنّ هذا الصعود الصيني سينتهي إلى بناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب، فستظل هناك عدة أسئلة مهمة تطرح حول آليات هذا الانتقال.. وهل سيرتبط بحدوث صدام عسكري حتمي بين الولايات المتحدة والصين أم يمكن أن يحدث ذلك باعتباره أمرا واقعا من دون وقوع هذا الصدام؟ وما هو المدى الزمني المتوقّع لحدوث هذا الانتقال؟ 

عناوين أخرى