ثقافة

ثمانية أصوات تبشّر بقيامة الذات والوطن في أوبرا تونسية عربية

صابر بن عامر

شهدت قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة بالعاصمة تونس مساء أمس الجمعة 27 ماي/ أيار الجاري العرض العالمي الأول لسيكودراما موسيقية تقدّم في العالم العربي، حملت عنوانا مُربكا “غدا… يوم القيامة” عن فكرة للموسيقي التونسي كريم ثليبي وتأليفه  في إنتاج مشترك بينه وبين مؤسّسة مسرح الأوبرا في ترجمة موسيقية لرواية بالعنوان ذاته للكاتب التونسي محسن بن نفيسة.

عرض موسيقي درامي مسرحي مدته قاربت الساعتين أتى مشفوعا بفيلم من إخراج عبد الحميد بوشناق وتمثيل فوزية بدر، جُهّز خصّيصا للعمل كي يكون خلفية بصرية للمنجز الموسيقي المُقدّم مُباشرة على الخشبة والذي أمنّه الأركستر السيمفوني التونسي بقيادة المايسترو محمد بوسلامة، وبمُشاركة عديد الموسيقيين التونسيين في عزف آلي منفرد وهم: زياد زواري وحسين بن ميلود وأيمن بن صالح وحمدي الجموسي، إلى جانب مجموعة من الأصوات التونسية وحتى العربية على غرار الفنانة الفلسطينية ناي البرغوثي والسوبرانو يسرى زكري والتينور هيثم الحضيري إلى جانب محمد علي شبيل وصابر رضواني وسامي بن ضو وسيرين هرابي والفنانة المخضرمة سنية مبارك.

مناصفة الجندر وتقاسم الوجع

“صولو” (غناء منفرد) وثنائيات وثلاثيات ورباعيات بل وأحيانا حضور جماعي للفنانين الثمانية المُشاركين والمُشاركات في العرض في مناصفة جندرية بحساب دقيق أربعة ذكور وبالمثل إناث، وبينهم الأوركسر السيمفوني التونسي وعصا المايسترو محمد بوسلامة موجها العازفين والفنانين، فيرتفع الإيقاع حينا وينخفض في غالبيته معبّرا عن انفعالات عجوز كان يلتقيها صاحب فكرة العمل كريم ثليبي كلما شدّ رحاله إلى العاصمة تونس قادما من الجنوب عبر القطار، فيراها في المكان ذاته، محطة الأرتال ببرشلونة، تفترش الرصيف وتتوسّد الفراغ، بعينين شاردتين وصوت مكتوم.

صوت عبّرت عنه حناجر الفنانة الفلسطينية ناي البرغوثي والفنانات التونسيات سنية مبارك ويسرى زكري وسيرين الهرابي، في حين عبّرت أصوات كل من هيثم الحضيري ومحمد علي شبيل وصابر رضواني وسامي بن ضو عن ضجيج الشارع، ربما أو صوت الباعة المنتصبين فوضويا هنا وهناك، في وطن يأكل أبناءه من المُهمّشين والمُفقّرين وهم أحياء.

أما العينان الشاردتان فتكفّلت بالتعبير عنهما باقتدار الممثلة فوزية بدر في حركاتها وسكناتها المصوّرة على الشريط المُصاحب للعرض الذي أخرجه عبد الحميد بوشناق صاحب مسلسلي “نوبة” و”كان يا ماكانش” وفيلمي “دشرة” و”فرططو ذهب” فأتى الشريط المصوّر تعبيرا عن البسيكودراما الجوّانية التي تعيشها البطلة أصل الحكاية/ العرض.

والبسيكودراما، اصطلاحا، هي ذلك المسرح النفسي الذي يأخذ شكل الورشة، أو اللعبة، ويُشارك فيه أناس عاديون لا يتلقون علاجا نفسيا خاصا، كانوا قد تعرّضوا لأزمة نفسية، جماعية عموما، بسبب حادث أو زلزال أو حرب أو خطر أو ضيق، وفي العادة يجتمع مشاركو جلسة البسيكودراما (من 8 إلى 12 شخص) في حلقة واحدة تعتمد على التلقائية والعفوية، والانسيابية دون تخطيط أو إعداد مسبق… ليتحوّل المُعالج فيها إلى مخرج، أو معدّ ومقدّم برنامج تلفزيوني.

وهو ما حضر بقوّة في عرض “غدا… يوم القيامة”، لكن بشكله الفني الجمالي، فالأصوات ثمانية وعازفو الآلات المنفردة (الصوليست) أربعة وكريم ثليبي هو معدّ  -الغائب عن الخشبة الحاضر في كل تفاصيل العرض- حكايته الموسيقية ومقدّمها ومخرجها ومؤلّفها.

رواية تُحاكي عجوزه المُنتقاة ويسرد من خلالها أوجاع وطن اسمه تونس يُشبهها وتُشبهه في العطاء دون انتظار مُقابل، ليأتي كل ذلك في شكل غناء أوبرالي أشبه بالفوكاليز الصوتي المُرتجل وما هو كذلك فعلا، بل مُنتظم ومُمنهج ومدروس، لكن بدا مُرتجلا عن إصرار وترصّد تعبيرا عن حال تونس المنهكة من الارتجال والقصور في الخيال لدى غالبية ساستها.

وفي ذلك يقول ثليبي: “حاولنا من خلال “غدا… يوم القيامة” دراسة مسألة الارتجال في الموسيقى التونسية عموما وفي موروثنا الموسيقي على وجه الخصوص لنقترح صيغا وجماليات جديدة فردية وجماعية، حوارية درامية وتطويرية نفسية مع الأركاسترا… ولكن هل تُفرز أجسادنا اليوم تلك الموسيقى؟!”.

ويُجيب عن سؤاله بقوله: “إذا كان لا بد من دراسة اللهجة الخاصة بالجسد وما ينتجه وما يتقاطع لديه من تلك الأصوات، فإن تلك الأجساد المؤدّية لا بد لها أن تخضع لترويض مسرحي وأن تكون للفرجة معنى نفسيا دراميا، قاصدا وعارفا”.

ويؤكّد ثليبي: “يُحاول هذا المشروع الفني تجاوز أشكال وأطر متكرّرة لمضامين مختلفة مثل أن يؤدّي مغن أمام مصدح ومن ورائه الأوركستر، حتى لا يقبع العرض في تراكيب شكليّة جامدة، لينفلت جسد المؤدّي في الفضاء حسب قصدية تعبيرية محدّدة، في إطار جمالي مسرحي باحث”.

قيامة الذات الإنسانية ضد الصعاب

هذه القصدية التعبيرية بدت موغلة في الألم ومن بعده الأمل في القيام من جديد، فـ”غدا… يوم القيامة” هنا، هو قيامة الذات الإنسانية وتجاوزها للمكبّل فيها سواء كان شكليا أو موضوعيا، فرديا أو جماعيا، خلقيا أو أخلاقيا، خاصا أو عاما… هي قيامة الفرد في المجموعة، فيغنّونه ويحكونه، بل ويوثّقونه فنيا في عمل موسيقي تونسي رائد، قابل للتصدير خارجيا، لو وقع تكثيفه أكثر والعمل على اقتطاع بعض شوائب التكرار فيه كي لا يسقط في النمطية المملة، خاصة وأن بعض إيقاعاته أتت مكرّرة وذات نفس واحد لا يتغيّر إلاّ لماما.

بقيت ملاحظة لا بدّ منها، أساسها ملابس الفنانين المؤدّين لقرارات صوت “العجوز” وجواباته وهي المتذرّعة لخالقها. قرارات أتت من ابتكار مصمّم الأزياء التونسي صالح بركة، بلونين نقيضين، الأسود والأبيض فقط، لكن دون تناصف هذه المرة كحال تناصف الجندر بين المؤدّين ذكورا وإناثا، فقد ارتدى كل من محمد علي شبيل وصابر رضواني اللون الأبيض، في حين ارتدى البقية اللون الأسود، فهل لأن السواد هو اللون الطاغي اليوم في تونس 2022، يبدو الأمر كذلك… لكن قيامة تونس آتية ولو بعد حين!؟