تونس رأي

تونس.. وحدة صمّاء أم حوار وطني؟!

محمد بشير ساسي
بعد فترة من الجفاء والطلاق بين الرئيس التونسي قيس سعيّد والدائرة السياسية أحزابا ومعارضة، بتحميل الأولى مسؤولية أزمات ما بعد 2011، واتهام الثانية بالتآمر على أمن الدولة والزجّ بقياداتها في السّجون، يدور حديث في الآونة الأخيرة حول نيّة السّلطة فتح باب “حوار وطني” طال انتظاره.
اتصالات غير معلنة
فمنذ الكلمة التي ألقاها الرئيس سعيّد خلال اجتماع مجلس الوزراء أواخر ديسمبر الماضي أي بعد ثلاثة أشهر من بداية عهدته الرئاسية الثانية، ألتُقطت إشارات إيجابية وبكثير من الحذر خاصة بعد تشديده على أهمية ما وصفها “بالوحدة الوطنية الصمّاء” التي تتكسّر على جدرانها كلّ المحاولات اليائسة لضرب الاستقرار، ضمن سياق حديثه عن التحديات التي تواجه تونس عام 2025، في ظلّ الأوضاع المتسارعة وغير المسبوقة التي يشهدها العالم.
ووفق ما روّجت له تسريبات وتقارير إعلامية، فإنّ الرئاسة التونسية بدأت في التحرّك عبر إجراء اتصالات غير معلنة بعدد من الشخصيات السياسية وممثلين عن أحزاب ومنظمات مدنية وحقوقية، ترتيبا لإجراء حوار وطني في مارس المقبل يستثني حركة النهضة وبعض القوى المعارضة الداعمة لها مثل جبهة الخلاص الوطني المعارضة التي يقودها أحمد نجيب الشابي.
وتشير المعطيات إلى أنّ الرئيس سعيّد سيعمل في المرحلة المقبلة على:
– تخفيف حدّة الانتقادات الموجّهة إلى سلطته من خلال إذابة الجليد بينه وبين طيف واسع من القوى السياسية والمدنية.
– رسم ملامح مرحلة جديدة من “الانفتاح السياسي” على الأحزاب والائتلافات الداعمة والمعارضة للسلطة.
ومن بين خطوات الأخرى التي قد تُقدم عليها السلطة وفق ما كشفت عنه التقارير الإعلامية:
– إجراء تعديل وزاري قد يطيح بوزيرة العدل ليلى جفال.
– اقتراح تعديل على المرسوم الرئاسي 54، المتعلق بـمكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصال.
– تخفيف عدد من الأحكام بالسّجن التي صدرت ضدّ عدد من النشطاء والإعلاميين خلال الأشهر الأخيرة.
إيصاد الأبواب
إلى زمن قريب وتحديدا بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أكتوبر 2024 والتي اعتُبرت بمثابة “بيعة” للرئيس من قبل أقلية لم تتجاوز 28% من الناخبين، راهنَ كثيرون على “خطاب أداء القسم” علّ سعيّد يبادرُ بتقديم عرض سياسي يذيب به جبل الثلج بينه وبين الطبقة السياسية، ويخفّف من وطأة حالة الانسداد السياسي التي خيّمت على البلاد منذ فرض التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021 والتي يعتبرها معارضوه “انقلابا” على التجربة الديمقراطية، وتصفية مؤسساتها وإرثها واستبدالها بنظام سياسي محوره رئيس الجمهورية ومن حوله الفراغ.
لكن بخلاف التوقّعات، تعمّد “ساكن قصر قرطاج برأي متابعين للشأن السياسي التونسي الهروب إلى الأمام بإيصاد أبواب الحوار مع المعارضة والاتحاد العام التونسي للشغل وقطع جسور التواصل مع الإعلام والمجتمع المدني، وعدم إطلاق سراح سياسيين وإعلاميين ومدوّنين، ليختار بذلك الحُكم وإدارة البلاد بالخيارات والمقاربات نفسها لعهدته الرئاسية الأولى، مؤكّدا أنه لا مجال للرجوع إلى الوراء، وأنه سيواصل ما بدأه بإعلانه الدخول في حرب تحرير وطني من الخونة والعملاء.
بيع الأوهام
مع إجماع المعارضة وبعض من أحزاب موالاة ومنظمات وجمعيات حقوقية ومؤسسات المجتمع المدني خلال الفترة الأخيرة على أنه لا يمكن لتونس أن تتحمّل أكثر من ذلك آثار أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، يبدو أنه لم يعد أمام السلطة خيار سوى تقييم موضوعي لحصادها السياسي، حيث تحاصرُها اتهامات شخصيات معارضة بتدمير مؤسسات الدولة والفشل في تحقيق أيّ إنجازات تُذكر في ظل تراجع معدّل النمو وتفاقم نسبة التضخّم وارتفاع الأسعار، فلا استطاعت برأيها استعادة الأموال المنهوبة الموجودة في الخارج ولا تمكّنت من إنجاز صلح جزائي مع رجال الأعمال المورّطين في شبهات فساد لدفع الاستثمار.
ورغم جميع إخفاقاته على أرض الواقع، فإنّ الرئيس سعيّد وفق وجهة نظر خصومه السياسيين يواصل سياسة بيع الأوهام للتونسيين معلّقا فشله على شماعة معارضيه الذين رمى بأغلبهم في السجون، متهما إياهم بالتآمر عليه وعلى أمن الدولة.
مغازلة سياسية
صحيح أنه في ظل تصاعد وتيرة المطالب بإجراء “حوار وطني”، أٌجبرت السلطة في تونس على استجابة مغلّفة بالغموض والمكبارة كما يصفُها محلّلون للمشهد السياسي، خصوصا أنّ الرئيس سعيّد لم يشر تصريحا ولا تلميحا إلى مراجعة موقفه من الأحزاب، سواء التي ما تزال تصر على أنها قريبة منه وأنها الحزام السياسي للخامس والعشرين من جويلية والداعم لمسار 2021 أو تلك التي تعلن معارضتها له.
لكن يبدو من الثابت في هذه المرحلة، أنّ السلطات في تونس أبدت بعض المرونة من أجل إعادة ترتيب البيت السياسي الداخلي عبر مغازلة القوى السياسية وتقديم صورة إيجابية للخارج تناغما مع المتغيّرات السياسية والتطورات التي تشهدُها المنطقة العربية والعالم.
وبقدر ما تنضجُ وسط الساحة السياسية وبين أورقة البرلمان مبادرة إجراء “حوار عقلاني جدّي” قوامُه المصلحة الوطنية”، وتشديد مطالب الأعضاء على ضرورة تكريس استقلال القضاء، وإطلاق سراح سجناء الرأي، وتنقيح قوانين الردع، واستكمال بناء المؤسسات الدستورية، فإنّ السلطة تكون قد وسّعت على نفسها دائرة المعارك ضدّ المتربصين بها في حال لم تقدّم أجوبة مُقنعة عن عدة أسئلة ملحّة وتخرجها من دائرة الغموض والتوجّس من تدمير المكتسبات التي حقّقتها البلاد في المجالات الدستورية والحقوقية والسياسية كما يتهمها خصومها السياسيون.
فأيّ تصوّر لحوار وطني يريد الرئيس سعيّد أن يقنع به الشخصيات السياسية؟ ما الهدف منه في هذا التوقيت تحديدا؟ هل هو تجميع الكل لمجرد التجميع لغاية في نفس يعقوب؟ أليس من العبث أن يروّج لـحوار وطني عقلاني لطي صفحة الخلافات تحدّد السلطة شروطه وظروف انعقاده والأحزاب المشاركة فيها تماشيا مع مزاجها السياسي؟
ما الذي جدّ حتى يبعث الرئيس التونسي برسائل مشفرة عن وجود نية ربّما نحو مراجعة مقارباته السياسية؟ ألا يمكن اعتبار أنّ اللحظة قد حانت ليعلن سعيّد صراحة تخلّيه عن أفكاره ونظامه القاعدي ويعيد اللعبة إلى نقطة الصفر؟.
تنازل السلطة
يجمع كثيرون بأنّ الحديث عن حوار وطني في الآونة الأخيرة لن تكون له “مصداقية سياسية” على أرض الواقع إذا لم توفَّر له عدة شروط والمقصود هنا تنازلات السلطة بالانفتاح والتخلي عن المزايدات وخطاب التخوين والزجّ بكل الأصوات المعارضة في السجون، وبالتالي اعتراف الرئيس سعيّد بأنه يحتاج إلى دعم مختلف القوى السياسية والحزبية للخروج من الأزمة.
أما بخلاف هذا، فمحاولة فرض “الوحدة الوطنية الصمّاء” بطريقة غير متطابقة مع حوار وطني لا يُقصي أحدا، جامع ينكبّ على حلّ مشاكل البلاد على حد وصف رئيس جبهة الخلاص نجيب الشابي، فمعنى ذلك أنّ سعيّد ما يزال يستبطن فكرة الحوار الوطني وهو الذي وصف ما جرى في سنة 2013 من توافقات بالقول إنّ “الحوار الذي يوصف بأنه وطني كما كان الشأن في السابق فلا هو حوار ولم يكن وطنيا على الإطلاق”.
عندها يتوجّب على الجميع أن يفهموا أنّ الوحدة الصمّاء، كما بشّر بها سعيّد، هي أقرب إلى معناها التاريخي البورقيبي، وهي أن يصطفّ الجميع من أحزاب ومنظمات وطنية ومجتمع مدني وإعلامي وبقية أفراد الشعب ومختلف فئاته وطبقاته خلف الرئيس في مواجهة أيّ أزمة سياسية أو اجتماعية محتملة أو قادمة قد تأتي بها رياح التغيير إقليميّا ودوليّا.