تونس رأي

تونس.. والغياب عن الساحة الليبية

تونس آخر بلد يحتاج أن يتحدث عن خصوصية العلاقة التي تربطه بجارته ليبيا. كل شيء يجسد تلك الخصوصية من تاريخ واجتماع وجغرافيا، ناهيكم عن المصالح الاقتصادية والأمنية الحيوية المتداخلة والمترابطة.
رغم كل ذلك يكاد ينشأ إجماع داخل تونس وخارجها، على أن البلاد لم تغب يوما عن الشأن الليبي كما هي اليوم، في تراجع لدور وتأثير دبلوماسيتها التي طالما وصفت بالتوازن والنجاعة إلى حد ما من قبل.
يظهر هذا الواقع جليا من خلال الحراك المتصاعد إقليميا ودوليا بحثا عن حل للحرب الدائرة هناك بين معسكري اللواء المتقاعد المدعوم إماراتيا ومصريا وفرنسيا وروسيا خليفة حفتر، وحكومة الوفاق من الجهة المقابلة المدعومة أمميا وكذلك من قبل تركيا وقطر.
حراك بلغ ذروته بالإعلان في المغرب عن توقيع أطراف النزاع ما بات يعرف باتفاق “بوزنيقة” في منجز دبلوماسي مهم للمملكة المغربية، عزز من مكانتها ودورها في الساحة المغاربية بل وأبعد منها.
تونس أعلنت في كثير من الأحيان النأي بنفسها عن المحاور الإقليمية، خشية انعكاساتها المحتملة على أوضاعها الداخلية الهشة، مشيرة من طرف خفي إلى أن مصلحتها تكمن في توقف القتال والمضي نحو حل سلمي والانصراف بعد ذلك إلى إعادة الإعمار والتنمية وهو المسار الذي منّت تونس نفسها بنصيب محتمل فيه في حال كتب له أن ينطلق.
وسط مؤشرات متضاربة لمن قد تؤول التطورات إلى مصلحته، بقيت تونس على نفس المسافة من طرفي الحرب، لكنها مع ذلك لم تتردد مرارا في التعبير عن التزامها بالشرعية الأممية التي تتمتع بها حكومة الوفاق، دون أن تقطع في نفس الوقت شعرة معاوية مع حفتر نظرا ليمثله من ثقل في شرق ليبي يعبر عن نفسه من خلال برلمان طبرق وشخصيات قيادية من أهمها عقيلة صالح.
يحسب للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في مرحلتي توليه رئاسة الوزراء ثم رئاسة الجمهورية الدور الذي لعبه في دعم الثورة في ليبيا، حيث أشارت تقارير إلى خطوط إمداد حتى بالسلاح ساهمت في الشد من أزر الثوار، قبل أن تعصف الانقسامات والصراعات بالمشهد الليبي وتأخذه بعيدا عما كانت تنتظره تونس من جارتها.
وصفت السياسة التونسية إزاء ليبيا بالتردد وبالمحاولة اليائسة لإمساك عصا شبت فيها النيران من وسطها، ليتحول التردد من وجهة نظر البعض زمن الرئيس الحالي قيس سعيد إلى ما يشبه التخبط. فقد أبدى ساكن قرطاج حرصا شديدا على الاستئثار بملف السياسة الخارجية بأكثر مما تسمح به المحددات الدستورية، وإلى الوقت الذي تمكن فيه الرجل من تكوين فريق رئاسي وصف بمحدود الخبرة والحنكة السياسية عامة والدبلوماسية خاصة، طلع سعيد على الناس بطرح بدا في نظر منتقديه غريبا، حيث دعا لتفعيل دور القبائل بل وتقديمه على غيره في مساعي البحث عن حل للأزمة الليبية، واستقبل فعلا أشخاصا وصفوا بكونهم “مرجعيات قبلية”.. للبحث في سبل التوصل لتسوية سلمية للصراع أو على الأقل تلمس المداخل التي قد تمهد لذلك الحل المنشود.
ذكّر طرح الرئيس سعيد الخاص بليبيا كثيرين باللويا جيرغا في أفغانستان تلك الهيئة التي بدت أقرب إلى مؤتمر قبلي عام.. يجتمع فيما يشبه مجلسا للشيوخ ليستعرض تطورات الواقع الأفغاني المأزوم في مفاصل مهمة منه، ويتدارس الحلول والمبادرات المطروحة.. وليس من شك أن القبيلة في بلدان تحتل فيها موقعا متقدما وتتمتع بنفوذ فاعل، تشكل ورقة لا يمكن إغفالها، لكن ذلك لا ينسحب على مجتمع ليبي لا يمكن اختزاله في تركيبته القبلية، خاصة وأنه معرض لشبح الانقسام بين شرق وغرب/ عرب وأمازيغ/.
بادرت قيادات ليبية إلى تسفيه القيمة الحقيقية للأشخاص الذين استقبلهم سعيد واصفين إياهم بقليلي أو عديمي الأهمية، مؤكدين أن المجتمع الليبي أفرز تعبيرات أعلى وأرقى تتمثل في تيارات فكرية وسياسية ذات تجربة عريقة، معتبرين أن القفز فوق هذا المعطى لم يكن لحكمة في قراءة المشهد الليبي بقدر ما هو انعكاس لمسلّمة لدى الرئيس سعيد يرى ضمنها أن الأحزاب شر مطلق تقريبا وأن أيّ حل يبدأ بتهميشها بل والتخلص منها في بناء جديد يعيد إنتاج السياسة والدولة ومنوال الحياة السياسية والاقتصادية.
وفيما سارع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمفارقة إلى عقد مؤتمر شبه قبلي ليبي لوّح فيه بالتدخل العسكري في ليبيا استجابة لمناشدة حملت كل دلائل الترتيب المسبق.. لقي تحرك الرئيس سعيد “سكتة دبلوماسية مبكرة” أودت بها، ليطفو على السطح تنافس جزائري مغربي أخذت فيه الدار البيضاء السبق عندما نجحت في جمع الفرقاء على إحياء اتفاق الصخيرات، في خطوة اعتبرت ردا عمليا وذكيا على أطروحات المعسكر المصري الإماراتي الذي بنى دعمه لحفتر على أساس أن اتفاق الصخيرات استنفد مداه الزمني الأمر الذي يسقط شرعية الوفاق ويفتح الباب بالتالي لما يعتبرونه الجيش الليبي لفرض النظام ومصادرة المسار السياسي.
طرح اصطدم بصمود العاصمة طرابلس في وجه حفتر وكذلك بدور تركي أعاد التوازن الميداني عندما بدأ يختل لصالح حفتر وقواته مع اقترابهم يوما بعد يوم من العاصمة طرابلس لإسقاط حكومة الوفاق وحسم الموقف ميدانيا، دور تركي تعامل معه قصر قرطاج بتوجس كبير، ظهر فجّا بين ثنايا بلاغ رسمي تحدث عن تفتيش طائرة مساعدات تركية إنسانية كانت موجهة إلى الغرب الليبي.
عاد فرقاء الساحة الليبية هذه الأيام للالتقاء في المغرب وسط مؤشرات على تقدم حذر بينهما في اتجاه حل مرتقب، وسرعان ما لقي ذلك ترحيبا أمميا ودعما تركيا روسيا على الأقل في مستوى الموقف الدبلوماسي المعلن، وبدا حفتر معزولا وهو الذي حرص على اختزال موقفه فيما يملكه من قوة ميدانية.
وصلت الجهود الدبلوماسية المغربية حدّ البحث في توزيع المناصب السيادية وما يلزم ذلك من إجراءات ترميم الثقة المتبادلة والرجوع مجددا إلى مسارات سياسية بعد أن بدا واضحا ألا حسم عسكريا للصراع في ليبيا.
ومعلوم أن من ينشط في جلب السلام لبلد ما يكون الأقرب إلى قطف ثماره عندما تتوطد أركانه، وهو ما لم يعد ينطبق على تونس الجارة الأولى لليبيا، فما قد يعلق بذهن الليبيين أو قسم مهم منهم على الأقل، هو أن تونس الرسمية خذلتهم بمعنى ما في محنتهم، وأنها في أحيان أصدرت مواقف ملتبسة حيال ثورتهم والجهود التي بذلها حفتر للانقلاب عليها عسكريا بدعم من دول معادية لثورات الربيع العربي بما فيها الثورة التونسية نفسها.. وهو ما جعلهم في نهاية المطاف ينصرفون عن المسار التونسي.. خاصة في حقبة الرئيس قيس سعيد.. المعنية كل هذه الأيام بقياس قاس للمسافة بين سقف التوقعات التي رافقت وصوله للسلطة.. والأداء الفعلي على الأرض.

معتقلو 25 جويلية