تونس سياسة

تونس من ختم دستور 2014 إلى احتكار الدستور زمن قيس سعيد

بين السابع والعشرين من جانفي/يناير 2014 والذكرى الثامنة للمصادقة على دستور الجمهورية الثانية في تونس 20222، مسافة تحمل الكثير من المفارقات السياسية بل الهزات إن صح التعبير. 

تلوح الصورة اليوم شديدة التناقض مختلفة عن تلك اللحظات التي خاطب فيها رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر يوم 27 جانفي/يناير 2014 المشاركين في تلك الجلسة العامة التاريخية بالقول “أترك لضمائركم في هذه اللحظات الخيار لتصوت للديمقراطية وقيم حقوق الانسان والحرية والكرامة”، لترتفع السواعد بالعلم الوطني والهتاف لتونس والخلود لشهداء ثورتها، في مشهد جاب أنحاء العالم برمزيته حتى تحول لأيقونة خلد نجاح التونسيين في تكليل الانتقال الديمقراطي بدستور توافقي تقدمي وطني جامع. 

كيف يمكن أن نقرأ المسافة التي مرت بها تونس من إقرار مشروع دستور حظي بإشادة عربية وعالمية واسعة، إلى قرارات قيس سعيد يوم 25 جويلية/يوليو 2021 التي انطلقت من تفعيل الفصل 80 المتعلق بالتدابير الاستثنائية وانتهت لاحقا بتعليق أغلب أبوابه، سؤال تتطلب الإجابة عنه العودة إلى أبرز المحطات التاريخية لدستور الجمهورية الثانية منذ سنة 2011 وصولا إلى قرارات 22 سبتمبر/أيلول 2021.

الخلافات والصراعات  

لم يكن الطريق نحو صياغة الدستور الذي انطلق في أكتوبر 2011 بانتخاب المجلس التأسيسي الثاني منذ الاستقلال معبدا أو هينا، إذ تخللته العواصف السياسية والخلافات والتجاذبات والصراعات، وسط انقسامات كبيرة بين القوى والكتل السياسية نتيجة تصادم المواقف والأفكار والأيديولوجيات، وتعثر الوصول إلى وفاق أو أرضية مشتركة بشأن عدد من القضايا والمبادئ الخلافية بين الفرقاء السياسيين. 

خلافات فكرية أعادت الجدل حول قضايا كانت تعد محسومة منذ عقود، ترتبط بالنمط المجتمعي والمساواة بين المرأة والرجل والمنظومة الحقوقية الكونية، فضلا عن سجالات مستحدثة من وحي مرحلة ما بعد الثورة تتعلق بمكانة الشريعة الإسلامية وحرية الضمير وتجريم التكفير. 

صراعات زادت من تأزميها خطابات الحشد والعنف من مختلف القوى ما تسبب في خروج مارد الإرهاب من القمقم، ليغشى مشهد الدماء والاغتيالات السياسية على المشهد التي استهدفت كل من الشهيدين شكري بلعيد في فيفري/فبراير 2013 والنائب محمد البراهمي في جويلية/يوليو من نفس السنة.

تعطلت أشغال المجلس التأسيسي بشكل شبه كلي بعيد انسحاب نواب المعارضة، وسط حالة انقسام سياسي سرعان ما انتقل فتيلها إلى الشارع محملة بنذر الاقتتال الداخلي قبل ان تتحكم دعوات التعقل والحوار.

التوافق الوطني يمهد لولادة الدستور  

وساطة المنظمات الوطنية الأربع (اتحاد الشغل وهيئة المحامين واتحاد الأعراف ورابطة حقوق الإنسان) نجحت في جمع الفرقاء السياسيين على طاولة مفاوضات مارثونية متعسرة المخاض، كللت بالتوصل إلى خارطة طريق سياسي كان عنوانها الأبرز صياغة الدستور، بعد تحديد جملة من التوافقات الكبرى بشأن المسائل الخلافية في النص. 

جسد الدستور بعد 3 سنوات من المداولات جملة من القيم والمبادئ الكونية، مستندا إلى مبدأ المواطنة رافعا قيمة الحرية وممجدا لحقوق الإنسان وحرية الضمير، ومقرا بمدنية الدولة دون قطيعة مع إرثها الإسلامي وانتمائها العربي والحضاري، فكان نصا محملا بروح العصر منفتحا على تاريخ تونس وثقافتها بفسيفسائها الاجتماعية والدينية والفكرية.

الاختبارات وأزمات التأويل 

الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2014 كانت بمثابة أول اختبار فعلي للدستور ومدى توافقه مع مستجدات مرحلة ما بعد الانتقال الديمقراطي، والمشهد السياسي الجديد في البلاد. 

مرحلة كانت منطلقا لعدد من الأزمات والخلافات الناتجة عن تأويلات متباينة للنص الدستوري وبنوده، فيما ظهرت أزمات لاحقة نتيجة صمت الدستور بشأن بعض القضايا المستحدثة وعدم تعرضه إليها، والتي تعلقت بالمهل الدستورية لتشكيل للحكومة وتكليفها، إلى جانب التجاذبات حول صلاحيات رئيس الجمهورية والتي طفت على السطح منذ بداية عهدة قيس سعيد. 

كيف انتقلنا من الاحتفاء بدستور تقدمي نموذجي إلى مشروع سعيد لإعادة كتابة الدستور بعد 8 سنوات من المصادقة عليه؟ تساؤل طرحته بوابة تونس على الباحث والأكاديمي سامي براهم، فأٍرجع الأمر إلى جملة من العوامل أبرزها تأخر الطبقة السياسية في الاستجابة لانتظارات الشعب المنصوص عليها في الدستور، والذي عبر عن جملة من المطالب المشروعة خاصة على صعيد المسألة الاقتصادية والاجتماعية. 

وأضاف براهم « تأخر الطبقة السياسية عن الاستجابة لمطالب التونسيين جعل الدستور محل عدم ثقة، كما حملت أخطاء السياسيين على النص وبدأت مقولات من نوع: الدستور لم يوفر لنا شيئا ولم يوفر لنا الخبز ولم يملأ سلالنا ولم يحقق الآمال المعلقة عليه تجد رواجا في أوساط الشارع التونسي”.

ترذيل الدستور  

وأكد براهم أن العامل الثاني تمثل في ترذيل البرلمان والحياة السياسية والدستور، دون أن يدرك القائمون على الأمر عدم امتلاك بديل للنص الحالي خاصة في المسألة الاجتماعية، قائلا “هل توجد صيغة أكثر تعبيرا عن الانحياز إلى المهمشين من الباب الذي يتحدث عن التمييز الإيجابي”.  

كما أوضح محدثنا أن هناك رغبة في ترذيل الدستور لتغيير منظومة الحكم من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وبالتالي فالاختلاف بشأن الدستور ليس خلافا على المبادئ والقيم بل هو خلاف بشأن مشروع الحكم.  

وفي قراءته للأزمة السياسية الراهنة، يرى سامي براهي أنها لا ترتبط بالدستور بل بعدم تطبيقه، مشيرا إلى أنه يتضمن عديد الاستحقاقات التي يمكنها أن تخرج البلاد من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، “لكن الإشكال يكمن في الانحراف عما يقتضيه من التزامات مثل المحكمة الدستورية التي لم تدخل حيز التنفيذ أو تعثر تنفيذها نتيجة اصطدامها بتوجهات سياسة متناقضة”. 

كما يشير براهم إلى الهيئات الدستورية والرقابية التي تعد فخرا دستوريا وأنموذجا يحتذى به تحد من احتكار السلطة، وتكرس أحد أشكال سلطة الشعب التي يمارسها عبر هذه الهيئات إلى جانب السلطة التشريعية. 

وقال براهم لبوابة تونس “لو توفرت إرادة سياسية ووطنية للانتقال بالدستور إلى حيز التنفيذ لتمكنت تونس من الخروج من أزماتها في وقت معقول”.  

ويقر سامي براهم بأن التوافقات السياسية بشأن عدد من الأبواب والفصول في دستور 2014 أفرزت حالة من الضبابية السياسية والقانونية، تسببت في أزمات تأويل النص وجدل كبير بين السياسيين والخبراء، لكنه بالمقابل يشير إلى أن هذه القضية ليست حكرا على الدستور التونسي بل تشترك فيها مختلف دساتير العالم باعتبارها قائمة على تعاقدات وتوازنات سياسية.

وأضاف سامي براهم “من يصوغ الدساتير هي القوى الاجتماعية والسياسية والمدنية والنخب، بالتالي هذا يعكس التوازنات الموجودة في كل مجتمع، والطبيعي أن يقع تعديل على الدستور في مناسبات تتطلب تغييرا بحسب الأوضاع المستجدة أو تغيير هذه التوازنات، كما أن التأويل خاصية ملازمة لكل الدساتير في العالم”. 

واعتبر محدثنا أن الإشكالية في تونس الآن: هو وجود طرف واحد يسعى لاحتكار تأويل الدستور.