تونس.. بين المُنجز الثوري والخشية من الأسوإ
tunigate post cover
تونس

تونس.. بين المُنجز الثوري والخشية من الأسوإ

لم تتراجع نسب التضخّم والبطالة والفساد عمّا كانت عليه ليلة الثورة التونسية قبل 12 عاما بل زادت سوءا.. فهل يتجدّد الغضب؟
2023-01-15 12:44

مختار غميض

في عام فقط بين الذكرى الماضية والحالية للثورة التونسية، لم تتحسّن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وتدهورَ الوضع السياسي والحقوقي أكثر، وتتحمّل الطبقة السياسية السابقة جزءا من مسؤولية إفراز “المسار التصحيحي” الحالي للرئيس قيس سعيّد.

صحيح، كثرت المعارضة لكن قلّ تأثيرها، وتعدّدت طرق الاحتجاج لكن صُمّت الآذان إزاءها، وقاطع الشعب الانتخابات لكن الرئيس أصرّ على استمرارها، فهل كان لا بدّ من امتحان إرادة الشعب في قدرته على الصمود والمواجهة في وجه التصلّب والراديكالية والإقصاء؟.

يبدو الشعب مستسلما للواقع وكأنّه قدر محتوم، بينما تطالب قواعد المعارضة بتصعيد المقاومة المدنية، ويخشى آخرون من “انفجار ثوري” قد يزيد الأوضاع سوءا، فهل كتب علينا البقاء في عنق الزجاجة؟.

الانقلابيون لا يتراجعون

يقول بعضهم إن الانقلابيين لا يتراجعون في قراراتهم، صحيح، لكن لا شكّ أنّ الأيام كفيلة بكشفهم والمتقلّبين، بعد أن تصيبهم عوامل التعرية أمام أقرب داعميهم، وهذا ما حدث مع مشروع الرئيس التونسي قيس  سعيّد بعد المقاطعة الأخيرة لانتخاباته.

هذا المسار المتعثّر، ينطبق على الواقع السياسي الذي يعيشه الحراك الثوري العربي عموما من تنافس وصراع منذ 2011، في أكثر من بلد، حيث تسعى الشعوب إلى التخلّص من استعمار داخلي جاثم على صدرها، خنق أصواتها، ويسعى بكل السبل إلى العودة بشكل أعنف.

ربما نضطر إلى المقارنة بين التجارب الثورية، حيث تعدّ تونس الأقل تضرّرا بعد أن كانت مثالا ثوريا على مستوى الحقوق والحريات، رغم ما أنفقته الدول الراعية من ريع نفطي لوأد الثورات عبر لوبيات دعم خارجي ومن خلال صفقات أسلحة بمليارات الدولارات قُدّمت إلى عسكريين في اليمن وليبيا والسودان، وهي الدول نفسها المتّهمة بقيادة مؤامرات تصل تنفيذ اغتيالات سياسية وتمويل عمليات تفجيرية في تونس.

مع ذلك لم يتحقّق الاستقرار في اليمن الذي سقط في حرب أهلية هدّدت حياة أكثر من 20 يمنيّا، ولا في مصر حيث انهارت العملة إلى أدنى مستوياتها، فيما فاقت نسبة التضخّم 20% وفق الأرقام الرسمية، والنسب القياسية نفسها تهيمن على الأوضاع المعيشيّة والاقتصادية في ليبيا وتونس مع انهيار قيمة العملة في البلدين.

تلك الهشاشة في جميع نواحي الحياة جعلت الأنظمة تحسب كل صيحة عليها، فتهرع في المناسبات الوطنية إلى محاصرة الأماكن العامة ومطاردة الحقوقيين والمدوّنين والإعلاميين خشية انكشاف حجم الرفض الشعبي لها.

نظام التفويض

الآليات نفسها اعتمدتها الأنظمة الجديدة بعد الانقلابات، فقام النظام المصري بالتفويض لنفسه عبر جمع التوقيعات بعد حلّ البرلمان والدستور.

الأمر نفسه قام به الجنرال المتمرّد خليفة حفتر بعده بعام شرق ليبيا، جمّد الإعلان الدستوري وحوّل البرلمان من العاصمة إلى طبرق شرقا، وفي تونس حلّ قيس سعيّد الحكومة والبرلمان والدستور دفعة واحدة، ثم فوّض لنفسه كلّ الصلاحيات، قبل إعداده دستورا جديدا.

بينما ظلّ بشار الأسد يرفض المشاورات حول دستور تشاركي مع المعارضة، ويعطّل إلى اليوم اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف للحلول دون الاعتراف بتقاسم الحكم مع المعارضة.

أجهضت الثورة المضادة، ثورة المصريين ثم تركتهم عالقين في الإفلاس والتداين، ثم اتّجهت إلى اليمن لسحق ثورتها، واحتلّت جزرها الاستراتيجية وموانئها النفطية، عبر إنشاء وكلاء محليين وميليشيات انفصالية للتقاتل وزعزعة الاستقرار بهدف الاستفادة من الفوضى.

لكن مع ذلك ما تزال روح الصمود تعتمل في النفوس، من اليمن إلى بر السودان وسوريا واليمن، ففشلت الانقلابات في فرض الاستقرار بالشكل الذي أرادته.

ثمن الدعوة إلى التحرّر

عرفت العشرية الأخيرة دعوات لتأميم الثروات، وأخرى تطالب بعدم التسامح مع المتّهمين بالفساد، ما أزعج السّلطات، وصلت حد الإذن  للجيش الوطني بالتدخّل المباشر لتأمين المواقع الحساسة، بينما اتّخذت الدولة قرارات مؤلمة لتشغيل آلاف الشبان في المناطق النفطية.

يبدو أنّ هذه الإجراءات والقرارات أزعجت الجانب الفرنسي بحكم وجود مصالح مستمرّة، تتجاوز مسألة فرنسا باعتبارها أوّل شريك اقتصادي، إلى مصالح قديمة ربطها مؤرّخون باتّفاقيات تعود إلى زمن الاستعمار، ولم يتمّ طلب وقفها العقود الأخيرة.

وبحجج التأثير السلبي في استقرار البلاد، أثارت مسائل الاتّفاقيات السرية مع فرنسا جدلا واسعا، أثارت القلق الشديد للسفراء الأجانب، وخاصّة تبرّم الشركات وتهديدها بالرحيل من البلاد.

واليوم لم تتحقّق كل الآمال بتحقيق الكرامة للتونسيين رغم الوعود الكبيرة من أنصار الرئيس خلال فوزه في الاستحقاق الرئاسي بمحاسبة الفاسدين المتعاونين مع الدول الناهبة للثروات، بينما غابت حاليا كل تلك التبريرات وتحوّلت إلى محاسبة للخصوم بشكل انتقائي.

الخصوصية التونسية

اعتماد الآليات نفسها لا يعني بالضرورة الانتهاء إلى النتائج نفسها بحكم اختلافات موضوعية شابت الثورات، مثل عسكرة الثورة الليبية لانتشار أكثر من 25 مليون قطعة سلاح، وتسليح المعارضة السورية واليمنية، بينما في تونس والسودان اتّخذت المعارضة سبلا سلمية وديمقراطية للحفاظ على ديمومة تجدّدها، ونيل الدعم الخارجي، وهو ما نجحت فيه إلى حدّ كبير.

حتى استطاعت المعارضة السودانية إجبار الفصيل العسكري على الاتّفاق للعودة على المسار الديمقراطي، فيما أحرجت المنظّمات والأحزاب التونسية طبيعة الانقلاب في قمعه للحريات، قبل كشف المقاطعة الشعبية غير المسبوقة للانتخابات الأخيرة.

هذا الطابع السلمي لمقاومة الانقلاب، كان ميزة للثورة التونسية منذ بدايتها، باعتبارها تجربة خاصّة غير مقلِّدة ولا امتدادا لغيرها، أثّرت ولم تتأثّر، ولم تدّعِ يوما أنّها معدّة للتصدير مثلما ادّعت تجارب ثورية أخرى في إيران والاتّحاد السوفييتي وغيرها.

وهذا الشكل نفسه حافظت عليه حتى عندما أعلن الرئيس قيس سعيّد إجراءاته الاستثنائية، فلم تكن انقلابا دمويا على الطريقة المصرية التي أدار بها السيسي آلته العسكرية التي خلّفت آلاف القتلى في الشوارع وعلى الملإ، ولا على الطريقة التركية التي قُتل فيها العشرات وجُرج المئات.

فلم يكن التونسيون يواجهون بأجسادهم العارية الدبابات التي أغلقت أبواب البرلمان المنتخب، ولم تسقط قطرة دم واحدة، بل يخرج الشعب أصلا للتنديد، إلّا بعد أن أصبحت العملية المناهضة للإجراءات الاستثنائية منظّمة ومؤطّرة من منظّمات مدنية وحزبية.

أوّلا؛ لأنّ المكاسب التي حقّقها الرئيس التركي أردوغان خلال العشرية الأولى من حكمه، كانت كافية للمقتنعين للخروج إلى الشوارع والدفاع عنه، بل كانت عفوية وغير مخطّط لها في انقلاب جاء فجأة وتمّ إحباطه في وقت وجيز.

أما في مصر فإنّ التغيير بطبعه كان حديث عهد بعد عام فقط على أول حكم مدني فتربّص به عقل الدولة العميقة بسهولة، لاعتبارات عدّة أهمها مكانة الجيش والاستخبارات في مصر لعقود خاصّة في ما يتعلّق بتوازنات تاريخية وجغرافية كدولة طوق مع كيان الاحتلال الصهيوني، بينما تغيب تلك الحساسية مع التجربة التونسية.

لكن الأغرب أن تحمل مسؤولية التركة الثقيلة للإخفاقات الحالية إلى عشرية الثورة في تونس، بينما في مصر التي تعيش الظروف نفسها لم يحمّلوا المسؤولية لعشرية السيسي، بل حمّلوها لعام الثورة، والحال أنّ التركة موروثة عن عقود ما بعد الاستقلال ولولا ذلك ما كانت الثورة أصلا.

خشية من الأسوإ

على وقع إحياء يوم الثورة، يبدو الكثيرون مستاؤون من عدم قدرة المعارضة

بأطيافها على لم الشمل تحت سقف واحد بإمكانه رسم خارطة طريق للعودة للمسار الديمقراطي وإدخال إصلاحات ضرورية على القانون الانتخابي بما في ذلك تحديد العتبة الانتخابية للأصوات المحسوبة، وإتمام المحكمة الدستورية، لقطع الطريق عن المغامرات من خلال تشكيل حكومات قوية لها أنياب في فرض القانون بما يقطع الطريق عن الوقوع  في سيناريوهات أوصلت البلاد إلى الانسداد الحالي.

طلب هذا المسار بالضرورة خطابا صريحا بعيدا عن التوافقات المغشوشة السابقة التي باتت مرفوضة سواء قبلها اتّحاد الشغل أم رفضها، حتى لا يقع الحراك العريض الرافض المسار التصحيحي للرئيس في تجريب المجرّب.

وقد سبق لرئيس البنك المركزي أن عبر تلك الخشية، خاصّة مع تأجيل منح تونس لقرض من صندوق النقد الدولي، لذلك يبدو أنّ الموالين للانقلاب أدركوا جيّدا فشله، لذلك باتوا ينادون بحوار ولو على طريقتهم المرفوضة من طيف كبير من المعارضة.

هذا المشهد المتناقض يحتمل حصول “انفجار ثوري” -على حدّ عبارة قيس سعيّد- لكن ضدّ مشروعه جمهوريته الثالثة وليس لصالحه بعد فشله في إحداث أيّ منجز يذكر، بل زادت حدّة الاحتقان الاجتماعي على الوضع الاقتصادي الكارثي بكلّ المقاييس، والأخطر أنّه من الممكن أن يسوء أكثر إذا استمرّت سياسية النأي بالنفس عما يجري فتتجدّد حالات الغضب.

الثورة التونسية#
المعارضة#
تونس#

عناوين أخرى