رأي

تونس.. المشروع العالق..

لي صديق عرفتني به نتائج انتخابات ألفين وتسعة عشر، فالرجل كان من الفاعلين في حملة الرئيس قيس سعيد ومن المؤمنين معه بضرورة التغيير الجذري للمشهد التونسي على مختلف الصعد يتقدمها المستوى السياسي.

معتقلو 25 جويلية

كنا نتفق في أمور ونختلف في أخرى، وبينما كان كل واحد منا يكتشف الآخر ويحاول تفهم قراءته ومواقفه ونقوده للمختلف، خضنا رحلة في الاتجاه المعاكس.. فقد انتقل هو من المناصر المتحمس إلى الناقد المتوجس.. بينما انتقلت أنا من الراجي.. إلى الغاضب المحبط.

في الأثناء كان كلانا على كل ما اختلفنا فيه.. يتفق حول فشل النخبة السياسية بمقدار أو بآخر في تحقيق أهداف الثورة.. والإيفاء بوعودها لرجل الشارع البسيط.

كنا متفقين على أن المعركة مع المنظومة ليست بالأمر الهين، فقد استطاعت تلك المنظومة العريقة المعقدة أن تلتقط أنفاسها وتراجع أوراقها وتعيد انتشارها.. وعوض أن تهاجمها “القوى الثورية”.. استطاعت هي أن تخترق صفوف تلك القوى وتنتدب بعضا منها وتلعب على تناقضاتها ورهاناتها المتضاربة.. وتمر بفعل كل ذلك من الدفاع إلى الهجوم.

تناقشنا بل وتجادلنا كثيرا.. وانتبهنا في غمرة ذلك إلى أننا نستعمل قاموسا بعينه:

أهداف الثورة والقوى الثورية والمنظومة والملفات الكبرى العالقة وتوزيع السلطة والثورة.. والأهم من كل ذلك مصطلح جامع غير مانع.. هو المشروع.

استوقفني حديثه عن مشروع قيس سعيد وفلان ابن المشروع ومسارات المشروع.. وهو الأمر الذي بدا لي مهما لكوني أحمل قناعة وهي أن ما انطلقت شرارته في ديسمبر 2010، لا يعدو في عمقه سوى أن يكون إرهاصا لتحول كبير قادم لا محالة.. لا يفعل تأجيله سوى كونه يضاعف الأثمان المحتملة.

كنت وما زلت أعتقد أن ثورة 2010 وضعت تونس أمام مفترق طرق لتختار طريقها: إما أن تعتبر ما حدث مجود أزمة من أزمات النظام والمنظومة التي تعيد إنتاج نفسها لتجاوز “الهزّة”.. فيعاقب البعض ويستفيد آخرون.. أو أن ترى البلاد فيما وقع فرصة لتحول تاريخي بحجم الخروج الصعب من مرحلة والدخول الأصعب في أخرى.

ولعل غضبي وغضب صديقي يتأتى من كون ما جرى طيلة العقد الأول من مسيرة الثورة لم يكن لا هذا ولا ذاك.. فالبلاد لم تبقى كما كانت.. لكنها أيضا لم تقطع معه، لقد رفعت أكبر العناوين التغييرية من قبيل الجمهورية الثانية والقطع مع المنوال القديم.. وإعادة التأسيس.. مستفيدة من سقف عال للحريات.. لكنها في مقابل مكاسب دستورية قانونية سياسية إعلامية، بقيت بعيدة عن أن تثبت لنفسها ولرجل الشارع أنها صنعت بالفعل تحولا تاريخيا.. كيف والبلاد حالها يسوء يوما بعد يوم بفعل عوامل مفروضة وأخرى خلاف ذلك.

إن المشروع هو ما تفتقده تونس حتى ترتب أفكارها وتستجمع قواها لتواجه استحقاقات الانجاز التاريخي المنشود، بين أن تلك المفردة بقيت عالقة تدعيها أطراف عدة دون أن تنجح في تجسيدها على الأرض ولتلك الأطراف في ذلك أعذار من وجهة نظرها وتعلّات بحسب منتقديها.

كان يفترض بثورة عندما تقترب في حبلها من “لحظة الوضع” أن تكون قد أنتجت جدلها الفكري والعملي.. حتى إذا جاء محك الاختبار الواقعي.. تظهر قدرتها على إنتاج الأفكار والقيادات والبرامج وصناعة الوعي العام القادر على تحمل كلفة ذلك.

لكن ما حدث ظل بعيدا عن هذه التوقعات.. ليس فقط بسبب التصحر السياسي الذي فرضه نظام بن علي طيلة عقود، وإنما كذلك بسبب “الفقر” الذي أظهرته الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية منذ وجدت نفسها خارج “بحبوحة التنظير” في مواجهة امتحان التدبير.

علمت بمقدار عن ملامح “مشروع” الرئيس قيس سعيد، وصرت بعد ما اكتفيت من عربيّته المتعثرة وإغداق المديح عليه من قبل أنصاره.. صرت أتطلع إلى تفاصيل طرحه.. فلقد دقت ساعة العمل كما يقال.

من لي غير صديقي حتى يفهمني ماذا عساها تكون تفاصيل المشروع وخارطة طريقه.. ولم أصبر كثيرا حتى سألته: ماذا وراء البناء الجديد؟ كيف ستدار المعركة مع البنى التقليدية في المشهد السياسي؟ ماذا عن حيتان المنظومة القديمة وتماسيحها وضباعها وثعالبها وعقاربها؟

ما مضمون شعار “الشعب يريد”. وما الذي سيعكسه في الواقع؟

ليس ينبؤك بمصير النتائج أكثر من المقدمات، فلقد جاءت المفارقة التونسية هذه المرة في صعود شخص إلى سدّة الحكم نعرفه ولا نعرفه!

رجل شاهدناه مرارا ضيفا على منابر الإعلام “محللا قانونيا” دون أي سيرة مهنية كبيرة ولا مسيرة نضالية تذكر.. مع لغة عربية خشبية مبسترة خارجة عن السياق التاريخي.

ذاكم الرجل وصل في ملابسات معينة للحكم في قصر قرطاج محاطا بمحدّدات دستورية لمهمّته كرئيس للجمهورية، وبينما كان الجميع يتطلع لفريقه الرئاسي.. وبعد طول ترقب.. طالع الجميع بغير المتوقع: فريق رئاسي غير كفؤ ومرتبك كثير الاستقالات، أخطاء اتصالية فادحة باتت محل غضب البعض وتندّر آخرين،

غياب شبه تام للدبلوماسية التونسية عن ملفات ومنابر إقليمية ودولية حيوية. والأخطر من كل ذلك طرح سياسي سرعان ما خلق معركة مع الحياة الحزبية التي لم تتوقف المؤسسة الرئاسية عن تحميلها وزر الأوضاع قديمها وجديدها.

أين هي الدبلوماسية الاقتصادية؟ أين هي المبادرات؟ أين ما يعكس مشروعا بحجم “إبهار التاريخ” الذي يتحدث عنه الرئيس سعيد بين فينة وأخرى؟

بدلا من ذلك، انخراط من وجهة نظر منتقديه في معارك مع أطراف حزبية ضدّ أخرى.. وسعي لتهميش البرلمان بكل الطرق بل وشيطنته حتى وصل الحال حدّ تحميل الأحزاب مسؤولية ظاهرة الهجرة غير الشرعية وحرائق الغابات…!!.. ولم يتبق سوى تحميلها مسؤولية اتساع ثقب الأوزون.

عادة ما يُسأل الرؤساء عن محصول المائة الأولى من حكمهم، ولقد تجاوز الرئيس قيس سعيد تلك النقطة الزمنية مبتعدا بعهدته الرئاسية يوما بعد يوم عن أن تفي باستحقاقات وعدها بالمشروع أو ما درج أنصار سعيد على وصفه بالبناء الجديد.

ليس بوسعي إغفال تعقيدات الواقع التونسي ومطباته.. لكن التجربة تأخذني وأعدادا متزايدة من التونسيين إلى أن مؤسسة الرئاسة بوضعها الراهن ودورها الحالي تحولت هي الأخرى إلى مطبّ كبير وتعقيد مستعص.. لقد صارت كما يقال جزءا من المشكلة بدل أن تكون مفتاحا للحل.

لم يكن الرئيس قيس سعيد أوّل من رفع لافتة “المشروع”.. فلقد ادعت الجبهة الشعبية ذات الخلفية اليسارية قبل أن تفضي إلى ربّها وتصبح عنوانا يتنازعه رفاق الأمس، أنها تحمل مشروعا جاهزا للحكم لا تنقصه سوى تزكية الناخب حتى يمر للتطبيق وينقل البلاد من الظلمات إلى النور.

كذلك فعل حزب التحرير الذي يوحي لمتابعي خطابه بكونه يملك حزمة حلول تحتاج التطبيق كي تظهر ثمارها على الأرض.. خلافة على منهج النبوة تسرّ المتطلعين وتشفي صور قوم مؤمنين.

لا الإسلاميون ولا القوميون نجوا من مشروع تونس العالق.. وكذاك الحال مع الليبراليين وغيرهم من التعبيرات السياسية والفكرية.. وليس كافيا في ذلك أن يستسهل الكاتب والناشط السياسي صافي السعيد طرح مشاريع كبرى لم يكف عن التبشير طيلة حملته الانتخابية الرئاسية بكونها قادرة على الإقلاع بالبلاد.

المشروع الوطني السيادي.. يحتاج حوارا وطنيا جامعا يلتقي فيه السياسيون بأهل الاختصاص.. للنقاش طويلا في تشخيص الأوضاع وتحديد الأولويات وتفصيل المبادرات ورسم الخطط والخرائط وتأمين التمويلات وإعداد الشعب للتضحيات.. كل ذلك يحتاج ما وصفه المفكر المصري طارق البشري بالكتلة التاريخية، تلك التي تتعالى على سفاسف الأمور لتنصرف إلى شرف وأمانة الفعل التاريخي.. لكن هيهات.. فوّتت نخبتنا السياسية على حدّ الآن على الأقلّ مقدمات ميلاد ذلك العامل التاريخي.. وجاء الرئيس سعيد لا ليصلح الأمر بل ليُفاقمه.. ظانّا فيما يشبه النبوّة السياسية، أنه لوحده سيقود عربة التغييري في البلاد وإذا لزم الأمر في المنطقة والعالم.. لكن أنّا له ذلك.. يسأل معارضوه.. مردّدين إنّ فاقد الشيء لا يعطيه.. وإنّ بيننا والرجل بقيّة عهدة رئاسية.. ستقف تونس بنهايتها على مفترق الطريق مجددا لتسأل سؤالا قديما يتجدّد: إلى أين؟.. وما العمل؟

سؤال يشاركني فيه صديقي.. وأعداد تتزايد من التونسيين..