عرب

تصريحات ماكرون بشأن الجزائر تجدد الغضب من تركة الاحتلال الفرنسي

عقب موجة من “الاستعراض الكلامي” والانفلات الديبلوماسي الذي صبغ تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه الجزائر والتاريخ الاستعماري لبلاده، كلفته أزمة ديبلوماسية وسياسية غير مسبوقة، بدأ ساكن الإليزيه محاولات لتصحيح اللهجة عبر رسائل إعلامية غير مباشرة وجهها للرئيس عبد المجيد تبون.

فبعد أيام من وصف نظيره الجزائري بأنه “رهين نظام سياسي متحجر”، عبر ماكرون في مقابلة الثلاثاء 5 أكتوبر/تشرين الثاني مع إذاعة “فرانس إنتر” عن ثقته بتبون مؤكدا أن العلاقات معه “ودية فعلا”.

ودعا ماكرون بشكل ضمني إلى إنهاء التوتر بما يسمح بعقد حوار ولقاء مع الرئيس الجزائري، وقال “نرجو أن نتمكن من تهدئة الأمور لأني أعتقد أن من الأفضل أن نتحدث إلى بعضنا وأن نحرز تقدما”.

ودعا الرئيس الفرنسي في السياق ذاته الرئيس الفرنسي إلى فحص التاريخ المشترك مع الجزائر بتواضع واحترام، مشددا على ضرورة الاعتراف باختلاف وتنوع الذاكرة المشتركة والتعايش فيما بينها.

خفايا الأزمة

ولم يكن التصعيد الذي اندفعت إليه السلطات الجزائرية بقرارها المفاجئ سحب سفيرها من فرنسا يوم السبت الماضي، الذي أتبعته بحظر تحليق الطائرات العسكرية الفرنسية في أجوائها، مجرد رد انفعالي على قرار باريس تقليص نسب التأشيرات الممنوحة للجزائريين إلى النصف كما توقع بعض المتابعين خلال الساعات الأولى.

فالجزائر لم تتردد في تفسير إجراءاتها بكونها ردا على “وضع غير مقبول ناتج عن تصريحات غير مسؤولة”، من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والتي نقلتها صحيفة لوموند، ما تسبب في توتر غير مسبوق في العلاقات تفوق خطورته أزمة سحب السفير العام الماضي بعد بث القنوات الفرنسية وثائقيا عن الحراك الشعبي في الجزائر.

سحب التوتر العاصف المخيمة على سماء الجزائر وفرنسا، تأتي أشهرا قليلة قبل إحياء البلدين الذكرى الستين لانتهاء حرب الجزائر كما توصف على المستوى الرسمي في فرنسا واستقلال البلاد في جويلية 1962.

صحيفة “L’obs” الفرنسية تطرقت إلى مضمون تصريحات ماكرون التي تكتسي حسب المراقبين نزعة انتخابية بنفس يميني.

تصريحات حاول ماكرون من خلالها اللعب على أوتار ملف حرب الجزائر وتاريخها حسب المتابعين، كما رُصدت أصداؤها في الأوساط السياسية والشعبية الجزائرية.

“نظام سياسي عسكري” 

فخلال استقباله قرابة 20 شابا من أحفاد قدماء المحاربين الفرنسيين في الجزائر، ألقى ماكرون كلمة تضمنت انتقادات حادة وكلمات لاذعة وصفت بـ”الخطيرة” تجاه النظام والتاريخ الجزائري، قد تكون تبعاتها أخطر وأعمق من مجرد أزمة عابرة.

هجوم ماكرون بلغ حد نعت السلطة الحاكمة الجزائرية بأنها “نظام سياسي عسكري يستند إلى تاريخ رسمي تمت إعادة كتابته بالكامل”، معتبرا أن ذلك التاريخ لا يستند إلى الحقائق بل “يعتمد على خطاب الكراهية تجاه فرنسا”.

الرئيس عبد المجيد تبون لم يسلم بدوره من قذائف نظيره الفرنسي الكلامية بعد أن وصفه بشكل ساخر بأنه “عالق داخل نظام متحجر”، مضيفا: “يمكنكم أن تروا أن النظام الجزائري متعب، وقد أضعفه الحراك “، في إشارة إلى الحراك الذي شهدته البلاد منذ 2019 رفضا لترشح الرئيس الراحل بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة والمطالبة بإصلاحات ديمقراطية.

انقلاب المواقف

الخلافات المرتبطة بالتاريخ الاستعماري خيمت على تصريحات ماكرون الذي لم يوفر فرصة السخرية من التدوين الرسمي للتاريخ الجزائري، والذي يصنف الاستعمار الفرنسي بالغزو الأجنبي الوحيد الذي شهدته البلاد في العصر الحديث، متسائلا  حسب تعبيره عن طبيعة “الهيمنة العثمانية” في الفترة ما بين القرنين 16 و18.

تصريحات ماكرون اللاذعة التي وصفتها الصحف الجزائرية بـ”المستهجنة”، تبدو مفاجئة بالنظر إلى تبنيه خلال الحملة الانتخابية سنة 2017 دعوات معتدلة لتجاوز القضايا الخلافية في التاريخ المشترك بين البلدين والمتعلق بالإرث الاستعماري، فضلا عن توقيتها غير المناسب.

و تذكر الصحافة الجزائرية في هذا السياق أن إيمانويل ماكرون عبر عن مواقف إيجابية عندما وصف الاستعمار، خلال حملته الرئاسية عام 2017، بأنه “جريمة ضد الإنسانية”، خلال زيارته إلى الجزائر.

الصحفية الفرنسية أشارت ضمن تحليلها إلى انقلاب مواقف ماكرون تجاه نظيره الجزائري بعد أن أشاد بشجاعته في حوار مع مجلة “جون أفريك” في نوفمبر الماضي، معلنا أنه سيقوم  “بكل ما في وسعه” لمساعدته في الفترة الانتقالية بعد الحراك. 

مواقف إيجابية تجسدت في جويلية/يوليو من العام الماضي، حين قامت باريس بمبادرة تاريخية تجاه الجزائر بإعادة جماجم 24 من المقاومين الجزائريين الذين أعدموا في القرن 19 عقب انتفاضات ضد الاستعمار الفرنسي، وهو ما حضي بإشادة جزائرية واسعة خاصة بالنسبة إلى موقف تبون الذي اعتبر أن مبادرة ماكرون تعد “نصف اعتذار”.

 وفي مارس/آذار الماضي، اعترفت باريس لأول مرة بأن المحامي الجزائري علي بومنجل، الذي توفي في مارس 1957، تعرض للتعذيب والقتل على يد الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير الجزائرية.

سلسلة أزمات بشأن التاريخ المشترك

ليست هذه الأزمة الأولى في تاريخ المسار المحفوف بالتوتر بين البلدين حسب الصحيفة الفرنسية، حيث تعود آخر أزمة خطيرة من هذا القبيل إلى شهر فيفري/فبراير 2005، عندما أقر البرلمان الفرنسي قانونا يعترف بـ “تمجيد الاستعمار”، إذ قوبل بغضب واسع في الجزائر، وعلى الرغم من إلغائه لاحقا فقد تسبب الأمر في إلغاء معاهدة صداقة كان يسعى كل من الرئيس جاك شيراك ونظيره الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لإبرامها.

في ماي/ مايو الماضي، استدعي السفير الجزائري في باريس، بعد بث قناتين فرنستين فيلما وثائقيا بشأن التظاهرات المؤيدة للديمقراطية في الجزائر.

وتبدو قضية الذاكرة المشتركة أكثر الملفات إثارة للتوتر، باعتبارها أشبه بميدان ملغوم بالقنابل السياسية والتاريخية، رغم تكليف الرئيس ماكرون المؤرخ بناميين ستورا بصياغة تقرير شامل عن الإرث الاستعماري في الجزائر، تضمن سلسلة من التوصيات الرمزية التي قوبلت بالرفض من الجانب الجزائري بسبب عدم التنصيص على الاعتذار التاريخي الذي تطالب به الجزائر عن جرائم الحقبة الاستعمارية، الأمر الذي قد يجدد النعرات والخلافات التاريخية المرتبطة بهذه القضية على خلفية خطاب ماكرون.