تركيا – اليونان… الحرب الصّامتة

محمد بشير ساسي

لا تكادُ تمرّ فترة حتى تعود سحابة التوتّر لتخيّم في سماء العلاقات بين تركيا واليونان، حيث باتَ الهدوء أقرب إلى حالة الاستثناء بين البلدين مع توجيه الاتّهامات المتبادلة بينهما بتحميل كلّ طرف الآخر مسؤولية والتّصعيد.

تحذير مباشر

بالأمس القريب كتب الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان آخر فصل من فصول التوتّر التركي اليوناني، حين اتّهم أثينا باحتلال بعض الجزر في بحر إيجه والتحرّش بمقاتلات تركية خلال مهمّة لحلف الناتو، ثم استهدافها سفينة تجارية في المياه الدولية، وفق الرّواية التركية.

أردوغان حذّر بشكل مباشر اليونان من أنّ بلاده قد “تأتي بغتة ذات ليلة وتفعل ما يلزم”، في رسالة واضحة من حيث الدّلالة بأنّ احتمال الصدام العسكري بات أكثر واقعيّة وخيارا قويّا على الأرض لن توقفه حكمة وتقدير العواقب التي كان يمتلكها القادة اليونانيون والأتراك.

فالنّزاع التركي اليوناني من النزاعات التقليدية الباقية دون حلّ منذ القرن الماضي، إذ تُسهم في إذكائه سياقات تاريخية ودينية وقومية وثقافية وجيوسياسية، رغم أنّهما عضوان في حلف شمال الأطلسي بما يفترض أنّهما حليفان أو على أقلّ تقدير ليسا خصمين.

خلافات معقّدة

لقد ظلّت الخلافات المُزمنة بينهما تدور في فلك مجموعة من القضايا، كتسليح جزر بحر إيجه والمجال الجوي والحدود البحرية وكذلك المسألة القبرصية، وغيرها من نقاط التوتّر الدائم التي بلغت في فترات ما حافّة الصدام المسلّح.

فهذا النوع من الأزمات بين الدول تكون فيه الخلافات عميقة أبعد إلى التسوية، والعارف بحقيقة الصّراع يستوعب عمقه وأبعاده وطبيعة شبكة المصالح ثم موازين القوى بين أطرافه في ساحة المعركة التي اتّخذت من شرق المتوسّط ميدانا لها.

ولا تبدو مصادفة أن يتزامن التصعيد الجديد بين تركيا واليونان في بيئة إقليمية وعالمية مضطربة، لاسيما على وقع الحرب الروسية الأوكرانية التي تمثّل وصفة مثالية لنقل التوتّرات إلى مستوى أكثر خطورة.

سياقات العداء

بالإضافة إلى الموروث التاريخي بين البلدين، تفرض عدّة معطيات نفسها في سياقات تغذّي النزعة العدائية المتبادلة، أبرزها:

– تحوّل أنقرة إلى محط اهتمام إقليمي ودولي، حيث استطاعت في السنوات الماضية إصلاح علاقاتها مع عدد من القوى الفاعلة، ما مكّنها أن تصبح ظلعا مؤثّرا في معادلات الحرب والسلم.

– شعور أثينا المتزايد بتراجع أهميتها في السياسات الإقليمية والغربية رغم العلاقات العسكرية القوية التي أقامتها مع عدة دول، لتجد نفسها ضعيفة في معادلة صراع الطاقة شرقي البحر المتوسّط.

– فيتو يوناني على دخول تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي ومطالب أثينا لواشنطن بمراجعة تعاونها العسكري مع تركيا، وهو ما رأت فيه الأخيرة تحريضا على عدم بيعها مقاتلات أف 16 وأف 35، واصطفاف اليونان إلى جانب الأطراف الداعمة لفرض عقوبات على أنقرة لشرائها منظومة الدفاع الروسية إس 400.

– ترويج أنقرة لسردية تعمّد اليونان توتير العلاقات معها وخوض حرب بالوكالة ضدّها كما حصل قبل قرن؛ والمقصود هنا فرنسا والولايات المتّحدة الأميركية، وفق منظور بعض المسؤولين الأتراك.

– تأكيد تركيا أكثر من مرة أنّ اليونان ليست ندّا لا اقتصاديّا ولا عسكريّا، في إيحاء بأنّ المواجهة العسكرية المباشرة مع أنقرة ليست في صالحها ولا تخدم مصالحها الذاتية، حيث يأتي الجيش التركي في المركز الـ13 عالميّا مقابل الـ27 للجيش اليوناني، وفق تصنيف عام 2022.

– قرب محطّات انتخابية مفصلية في كلا البلدين أصبحت المحرّك الذي يسهم في تسخين الأجواء، حيث تنتظر تركيا انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة في جوان/يونيو 2023 (وثمّة احتمال قائم بتقديمها). وتسبقها اليونان في الربيع المقبل بانتخابات برلمانية وبلدية، إذ سيشكّل الخطاب الحادّ والتهديدات وربما الاحتكاكات الميدانية عوامل جالبة للأصوات في ظلّ التحشيد في البلدين ضدّ بعضهما بعضا.

مبدأ الحياد

لكن رغم الأجواء المتوتّرة بين البلدين وحساسيّة الملفات الخلافية ومساحات الاحتكاك المحتملة بين تركيا واليونان، ثمّة عوامل تسهم في بقاء الحرب صامتة دون تصعيد عسكري وصدام مباشر بينهما، بسبب عضويتهما في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتحالفهما مع الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي عسكريا، بالإضافة إلى حاجة الحلف إلى التضامن أكثر في ظلّ أوضاع عالمية بالغة التعقيد.

وإذا ما كان الناتو حريصا بصورة جدية على الحفاظ على متانة حلفه، فإنّه مطالب بالوقوف على مبدإ الحياد بين الجانبين والتوسّط بينهما قبل أن تتطوّر الأحداث، غير ذلك فإنّه في حال نشوب الحرب بسبب خطإ غير مقصود أو سوء تقدير للعواقب، ستكون أسوأ الخيارات بالنّظر إلى تكلفتها الكبيرة على البلدين وعلى الاتّحاد الأوروبي المحيط بالتهديدات، وكذلك على واشنطن مهندسة التحالفات الخاطئة.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *