مدونات

تحقيق صحفي باهظ الثمن

سمية المرزوقي

اكتشفت الصحفية الألمانية هيلغا لوست، أنّ مقتل مواطنها الثلاثيني أوفي فيلهلم راكبراند في فلوريدا، لم يكن جريمة معزولة، وأنّه السائح الثامن الذي يلقى حتفه خلال الفترة الممتدّة من أكتوبر/تشرين الأول 1992 إلى سبتمبر/أيلول 1993.

وكان راكبراند قد سافر لقضاء شهر العسل رفقة زوجته كاثرين في نزل بميامي بيتش، لكنّهما تعرّضا لملاحقة من مجهولين ملثّمين وهما في طريقهما إلى المطار. عندما رفض الزوجان التوقّف، أطلق أحد المهاجمين النار على الزوج وفرّا تاركين الضحية غارقا في دمائه.

جمعت هيلغا أغراضها وسافرت مصطحبة والدتها لقضاء بضعة أيام في ميامي، ومتابعة تحقيقها الذي يرتكز على متابعة السيّاح الألمان وتوعيتهم بضرورة الحرص على سلامتهم طوال فترة الإجازة.

نهاية إجازة غير موفّقة

انغماس هيلغا في مهمّتها الصحفية لم يمنعها من الاستمتاع مع والدتها بشواطئ ميامي. وبمجرّد انتهاء فترة إقامتهما المقرّرة استأجرتا سيارة للتوجّه إلى المطار، لكنّهما تاهتا في الطريق ولم تتمكّنا من العثور على الاتّجاه الصحيح.

في تلك الأثناء، وعندما استدارت هيلغا بالسيارة لتعود أدراجها باغتتها سيارة بقطع طريقها فجأة. وفي لمح البصر ترجّل السائق وحطّم زجاج نافذتها، واعتدى على هيلغا ووالدتها بوحشية.

وتتذكّر الصحفية سماع صوت والدتها في تلك اللحظات، وهي تقول: “خُذا كل ما تريدان أرجوكما لا تؤذياننا”.

لم تثن تلك الكلمات المهاجمين على فعلتهما، بل زادت من حدّة غضبهما، واستمرّا في تسديد اللكمات على الضحيتين في محاولة لافتكاك مفاتيح السيارة وسرقتها برمتها.

لم تستسلم هيلغا ونجحت في تبادل اللكمات مع مهاجمها، واستماتت في الدفاع عن نفسها وعن والدتها وعن السيارة المستأجرة. ولحسن الحظّ، تمكّنت من تشغيلها ورفع مستوى السرعة. لكن مهاجمها ظلّ متمسّكا بالنافذة، وتعمّد عضّ يدها اليسرى لمنعها من القيادة والابتعاد.

زادت هيلغا في سرعة السيارة، وأجبرت المهاجم على تركها والسقوط أرضا. نجت الصحفية من الموت. لكن الهجوم ترك جروحا شديدة الخطورة على رأسها وكدمات على فكّها وظهرها، وفقدت الإحساس على الجانب الأيسر لوجهها.

وبدت آثار العضّة التي تلقّتها عميقة جدا لدرجة أنّها لامست عضلة اليد اليسرى. قدّمت هيلغا للشرطة مواصفات المهاجمين ونوع السيارة، وكل ما من شأنه أن يساعد في القبض عليهما.

الطريق الفخّ

كشفت التحريات الأولية للشرطة أنّ المنعطف الذي وقعت فيه مهاجمة هيلغا، هو طريق جانبية تؤدّي مباشرة إلى المطار. يعتمد المهاجمون هذه الطريق فخّا لمراقبة ضحاياهم القادمين إلى فلوريدا ومتابعة سيرهم منذ مغادرتهم المطار، لاقتناص الفرصة المناسبة للهجوم والسرقة وافتكاك السيارة.

في بداية الأمر، يُحدّد المعتدون السيارات المستأجرة المركونة في مأوى المطار، ثم ينتشرون لتتبّع طريق سيرها.

قال المدعي العام، بيرسي مارتينيز، في تصريح لوسائل إعلام أمريكية: “يتعرّض السياح في فلوريدا إلى السرقة بشكل شبه يومي. أصبحت للمدينة سمعة سيّئة لارتفاع منسوب العنف فيها، وصارت وجهة غير مرغوب في زيارتها”.

ونتيجة لتزايد الاعتداءات سنة 1993، نبّهت الحكومات الأوروبية مواطنيها بشدّة من عدم الذهاب إلى فلوريدا، وتراجعت حجوزات الفنادق في ذلك الوقت إلى 25%.

عدم رغبة السياح المستهدفين في العودة مرة ثانية لحضور التحقيقات وجلسات المحاكمة، صعّب الأمر على رجال الشرطة في إيجاد المشتبه فيهم. لكن هيلغا قرّرت البقاء لملاحقة المعتدين قضائيا، لاسيما بعد العنف الشديد الذي تعرّضت له.

الأسنان مفتاح القضية

أصرّت الصحفية الألمانية على معاينة آثار العضّة قبل تلقّي أيّ نوع من العلاجات التي قد تسرّع اختفاءها. وتمّ فحص العضّة في مخبر الصور التابع لمركز الطب الشرعي، وذلك عبر التقاط مجموعة صور من زوايا مختلفة وقيس العمق والحجم.

في الأثناء فشل المحقّقون في استخراج بصمات من السيارة التي استأجرتها هيلغا، لأنّ العاصفة التي هبّت يوم الحادثة محت كل الآثار.

ووجدت الشرطة نفسها أمام طريق مسدودة دون بصمات ودون مشتبه فيه ودون شهود، وهو ما جعل هيلغا تقرّر العودة رفقة والدتها إلى ألمانيا.

بعد انقضاء ثلاثة أسابيع عن الحادثة، دُعيت الصحفية مرة أخرى إلى الولايات المتحدة، لتحديد هوية مهاجميها من بين ألبوم لصور مجرمين سابقين. ولحسن الحظ تعرّفت على أحدهم أخيرا، إنّه ستانلي كورنت صاحب سجلّ إجرامي ثقيل.

واكتشفت الشرطة أنّ كورنت كان قد ألقي عليه القبض بعد أيام قليلة من حادثة الصحفية لاعتداء مشابه.

فقد اُتّهم بمهاجمة رجل كبير في السن لافتكاك سيارته. لكن لسوء حظّه كان الرجل داخل السيارة أمام بيته، وعندما استمات الرجل في الإمساك بكورنت مستنجدا بابنه -الذي تبيّن أنّه أحد رجال شرطة ميامي- تلقّى هو الآخر عضّة شديدة على يده اليسرى.

رغم تشابه الحادثتين، أصرّ كورنت على نكران أيّ ارتباط له بالاعتداء على الصحفية الألمانية.

وهنا لا تستطيع الشرطة إقناع هيئة المحلّفين بتورّطه في الحادثة الأولى رغم تعرّف هيلغا عليه من خلال الصور، لأنّ الاعتداء لم يتعدّ بضع دقائق ولا وجود لشهود عيان غير المعتدى عليها.

لذلك، ركّز المحقّقون بحثهم في إثبات أنّ كورنت هو الذي قام بعضّ هيلغا خلال الاعتداء. فقام طبيب الأسنان الشرعي، ريتشارد سوفيرون، بتصميم طقم أسنان وفق الصور الملتقطة لعضّة هيلغا، وكان لابد من الحصول على بصمات أسنان كورنت لإجراء المقارنة بينهما.

“لا تلمسوني” هذا ما ظلّ كورنت يردّده رفضا لتمكين الشرطة من بصمات أسنانه. لذلك قرّرت الشرطة استخدام القوة للحصول على ما تريد. لكن سرعان ما تراجع ووافق على التعاون بمجرد رؤية الأجهزة التي ستجبره على فتح فمه عنوة.

وبعد سلسلة من الفحوصات للصور، ولطقم الأسنان المصمّم وآثار العضّ التي تخلّفها أسنان كورنت، ثبت دون أيّ مجال للشك أنّ كورنت هو من قام بعضّ هيلغا.

ورغم مواجهته بالبراهين التي تثبت تورّطه في تهمتيْ محاولة السرقة والتسبّب في إصابات وجروح شديدة الخطورة، لم يعترف كورنت بارتكاب الاعتداء وقدّم حجة غياب تثبت وجوده في العمل أثناء وقوع الحادثة.

وبتفحّص وثيقة مراقبة الدوام، تبيّن أنّ إمضاءه كان موجودا لكن زملاؤه أكّدوا أنّه لم يتعوّد الإمضاء خلال فترات الاستراحة. كما أكّد مديره أنّه في ذلك اليوم تحديدا غادر كورنت مقر العمل ولم يعد.

حوكم كورنت بالسجن المؤبّد لفظاعة اعتداءاته، ولم يتمّ التعرّف على هوية مرافقه في الحادثة.

ومنذ ذلك الوقت توقّفت حوادث الاعتداء على السائحين، لأّنّ الشرطة صارت تقوم بدوريات مراقبة منتظمة في كل أرجاء المطار والطرق المحاذية لها في فلوريدا. كما أوقفت وكالات تأجير السيارات كلّ العلامات والملصقات الخاصة بها على السيارات التابعة لها، والمخصّصة لنقل السياح من المطار وإليه.

لم تنته مشاكل هيلغا لوست بمجرّد القبض على كورنت، وظلت تعاني لسنوات من آلام حادة كانت تمنعها من النوم والأكل بشكل معتاد والقدرة على العمل، حتى فقدت عملها منتجةً ضمن تلفزيون ألماني في ذلك الوقت، ممّا دفعها إلى إدمان الكحول والتفكير في الانتحار.

لكنّها نجحت أخيرا في الخروج من كابوس فلوريدا وأنشأت رفقة زوجها، جمعية “واتنيسجاستيس” لمساعدة ضحايا الاعتداءات الناجين ومرافقتهم خلال المحاكمات.