عبدالسلام الزبيدي
بعد ثلاث سنوات وشهر واحد بالتمام والكمال منذ أن أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيّد إجراءاته الاستثنائية اعتمادًا على الفصل 80 من دستور 2014، أعادنا خطابه الذي ألقاه أمام الوزراء وكتّاب الدولة المؤدّين للقسم على المصحف المطبوع بتونس واعتمادًا على دستور 2022، إلى نقطة البداية. وهو بمعنى من المعاني، رجوع إلى الوراء بامتياز، بالرغم من الشعار المرفوع؛ أنّه لا عودة حيث كنّا.
فبعد صلاة العتمة ليوم 25 جويلية 2021، ألقى سعيّد خطابا فيسبوكيا على الشعب واضعا قادة الجيش على يمينه وقادة الأمن على شماله في ظل غياب، حتّى لا نقول تغييب، وزير الدفاع إبراهيم البرتاجي وقبله رئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة هشام المشيسي.
خطابٌ تضمّن تجميد أعمال البرلمان بمقتضى أمر رئاسي وعربة عسكرية، وإعلان نفسه رئيسا للنيابة العمومية، وغير ذلك ممّا أوّله بأنّه تطبيق للفصل 80.
أمّا الهدف فهو تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة، وفق منطوق الفصل ذاته.
لكن بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على ذلك الحدث/الحادث في تاريخ تونس يعلن سعيّد أمام وزرائه الجدد أنّ “دواليب الدولة كما تلاحظون تتعطّل كل يوم”.
عندما يقيّم سعيّد عهدته
فبعد تجميد البرلمان وحلّه، وإقالة/ استقالة رئيس الحكومة، والاستئثار بالتشريع الذاتي دون السماح بإمكانية الطعن أو التعقيب، وتشكيل ثلاث حكومات دون مفاوضات أو مشاورات أو مناورات أو بيع وشراء في الغرف المظلمة، والمصادقة على دستور خطّه بيمينه، وتنظيم انتخابات تشريعية وجهوية، تتكرّر على مسامع الشعب التونسي العبارة ذاتها التي تمّ الاستناد إليها لإيقاف مسار الانتقال الديمقراطي بما هو عملية تفجير للدولة من الداخل وفق السجلّ اللغوي لرئيس الجمهورية.
إنّ تصريح رئيس الجمهورية قيس سعيّد بأنّ دواليب الدولة تتعطّل كلّ يوم، يُعتَبَر تقييما ذاتيا لفترة حُكمه طيلة السنوات الثلاث الأخيرة التي يمكن تقسيمها إلى فترتين، الأولى من 25 جويلية 2021 إلى مارس 2023، والثانية تمتدّ إلى الآن.
فترةٌ أولى أسند فيها إلى نفسه حقّ التشريع المطلق، وكان الرئيس الأوحد للسلطة التنفيذية خلافا لما كان معمولا به خلال الانتقال الديمقراطي.
أمّا الفترة الثانية فقد تميّزت بدستور ذي نظام رئاسوي وتشكّلت فيه مؤسسات منبثقة عنه.
فإذا كان مآل تعطّل دواليب الدولة في المرّة الأولى إخراج المتسبّبين في ذلك، وفق تقييم سعيّد، من دائرة الحكم ولو بتأويل لفصلٍ من الدستور لم يقبله أستاذة القانون الدستوري، فإنّ التعطّل الجديد لم يحمل وزره المسؤول الأوّل عن السلطة التنفيذية وإنّما مساعدوه.
ففي سنة 2021 عاب رئيس الدولة على الحكومة عدم توفّر الماء في مستشفى بجنوب البلاد فضلا عن أزمة التلاقيح، فما كان منه إلاّ تأويل الدستور تأويلا بعيدا ليُزيح رئيس الحكومة ويجمّد البرلمان لسبب من الوجاهة بمكان.
فوفق دستور 2014 يتمتّع رئيس الحكومة بصلاحية ضبط السياسات العمومية وتنفيذها، ويشترك معه البرلمان في المصادقة على هذه السياسات والتشريع لها فضلا عن تزكيتها لرئيس الحكومة والوزراء المساعدين له.
أمّا الآن، أي وفق دستور 2022، فإنّ رئيس الجمهورية هو من يضبط السياسات، بل إنّ سعيّد يعتبر من لا يعمل بهذا المبدإ مصابا “بالاستيلاب الفكري أو الموت السريري”، وهو كذلك من يعيّن رئيس الحكومة والوزراء ويقيلهم، وعندما تتعطّل المهام تكون النتيجة إقالة المساعدين لأنّهم خضعوا للوبيات وللمنظومات القديمة ولم يدركوا أنّ تونس تعيش تاريخا جديدا ميزانه دستور 25 جويلية.
يجدر بنا التساؤل في هذا المقام، لماذا تمّ اعتبار تعطّل دواليب الدولة سابقا نتيجة نص دستوري غير ملائم في حين أنّ تعطّله في هذه الفترة سببه الأشخاص وليس النص المؤسّس؟
لماذا تمّ في المرّة الأولى تحميل صانعي السياسات المسؤولية في حين تحمّل المساعدون الآن وزر ما حصل؟
لماذا ينوء وِزْر الوزير بأحمال نصّ وسياسات يكشف له الواقع الميداني أنّها غير قابلة للتطبيق؟
لماذا يكون صانع السياسات دائما على حقّ والحال أنّ التجربة أثبتت فشله الذريع في اختيار مساعديه من أعضاء ديوان رئاسي، إلى 5 رؤساء حكومات (للتذكير رئيس الجمهورية هو من اختار إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي بعد استشارة بالرسائل علما أنّ المشيشي لم يختره أيّ حزب برلماني)، وصولا إلى الوزراء.
والكلّ يعلم أنّ بعض الوزارات على غرار الداخلية والتربية اضطلع بمهام كل واحدة منهما أربعة وزراء في ثلاث سنوات؟
العيب في الدستور أم في الكاستينغ؟
تقودنا مجمل الأسئلة الواردة أعلاه إلى ضرورة طرح تساؤلين رئيسيين إضافيين، أوّلهما هل أنّ النظام السياسي الذي اختاره رئيس الجمهورية وصادق عليه الاستفتاء جزء من الحلّ أم أنّه خلق مشكلا جديدا قوامه تمركز السلطات في يد شخص واحد، وتحوّل رئيس الحكومة ومساعديه إلى مجرّد منفّذيين لا يساهمون في ضبط السياسات بالرغم من أنّهم الأعلم بالملفات وأنّهم أصحاب كفاءة في مجالاتهم من المفترض، بل المطلوب، أن تكون أكبر من كفاءة الماسك بالسلطة؟
أمّا السؤال الثاني فيتعلّق باختيارات رئيس الجمهورية للأشخاص أو ما يُعرف بالكاستينغ.
فالفرضية الكسلى تقول إنّه من حق رئيس الجمهورية أن يقيّم مساعديه وأن يقيل من حاد عن توجيهاته وسياساته، وأن يقصي من وقع في شراك اللوبيات والمنظومات الفاسدة وفق تعبيير سعيّد، لكن أليس من الجدير التساؤل عن كفاءة رئيس السلطة التنفيذية في هذا المجال، فضلا عن مسؤوليته عن اختياراته؟ فالقول إنّ عددا من الوزراء ارتكبوا سيلا من الأخطاء التي عدّدها في خطابه أمام من خلفُوهم في الحكومة أمس الأحد 25 أوت، لا يعفي من عيّن وأقال من المسؤولية.
وإذا كان دستور 25 جويلية لا يتيح أيّ فرصة لمساءلة رئيس الجمهورية، فضلا عن الخطوات الأشد وقعا والتي تضمّنها الدستور السابق ومحاها الدستور الحالي، فإنّ التقييم الحقيقي يكون يوم الاقتراع.
فالتصويت للمترشح قيس سعيّد يعني في ما يعنيه الرضى عن الدستور والنظام السياسي وعن الشخص ذاته، أمّا تحويل الوجهة نحو خيارات أخرى، فدلالته التقييم السلبي للحصيلة، أي حصيلة من استعمل الفصل 80، وكتب دستورا جديدا، وأرسى نظاما قاعديا، وشكّل حكومات اعترف بعجزها عن فهم النص المؤسس وعن تنفيذ سياساته وعن تحقيق أهدافه بما فيها الهدف من إعلان الإجراءات الاستثنائية (إعادة السير العادي لدواليب الدولة).
خطاب التكليف: عبارات سلبية
كان بالإمكان الحديث في هذا المقال عن سابقة تغيير الحكومة خلال الزمن الانتخابي (قبل 42 يوما من الاقتراع)، لكنّنا أحجمنا عن ذلك لأنّنا استبقنا الأمر وخضنا فيه في مقالين سابقين حول إقالة أحمد الحشاني وتعيين كمال المدوري وعلاقة ذلك بالانتخابات.
مع الإشارة إلى أنّ مراسم أداء اليمين والخطاب الذي تلاها لم يكشفا عن حضور رئيس الحكومة المدوري.
قد يكون الإشكال في عملية تركيب الفيديو، وقد يكون الغياب مبرّرا، وفي الحالتين فإنّ عدم الظهور بل البروز يؤكّد أنّه مساعد للرئيس دوره التنسيق والتنفيذ، فقط، وفي ذلك احترام للدستور.
وكان بالإمكان كذلك الخوص في طبيعة التسميات الجديدة وانتماءاتها، وفي الأسباب المعلنة وغير المعلنة للإعفاءات، وفي دلالات إعفاء وزيرين ينتميان إلى المؤسسة العسكرية. لكن ذلك لا يكتسي أهمية كبرى إذا كانت وظيفة الحكومة مجرّد المساعدة لا المساهمة في ضبط السياسات.
وكان بالإمكان كذلك اختيار زوايا أخرى لقراءة التحوير، غير أنّنا اخترنا الاكتفاء بما سبق والاختتام بإحصاء العبارات ذات الدلالة السلبية التي جاءت في ما يمكن تسميته خطاب التكليف.
فعلى مدى 22 دقيقة استمع الوزراء إلى هذا السيل من العبارات قمت بإحصائها حسب ورودها دون تغيير.
يكفي أن نتلوها تباعا حتى نتبيّن طبيعة المهام الموكولة قبل 42 يوما من الانتخابات الرئاسية:
المفترين، الكاذبين، نواياه الإجرامية، تأجيج الأوضاع لغايات انتخابية مفضوحة، تتعطّل كلّ يوم دواليب الدولة، جُبِل على الفساد، المنظومة من وراء الستار، هذا العمل الحقير، والالتفاف والتوظيف والاحتواء، الصراع، ومنظومة فاسدة، استيلاب فكري، موت سريري، تعثّر سير دواليب الدولة، ألّا تسيل قطرة دم واحدة، يُهدّد بحرب أهلية، أزمات مفتعلة، صراع مفتوح، وجهات مرتمية في أحضان دوائر خارجية.