بين سعيّد وحكوماته..من يتحمّل مسؤولية التعاطي مع ملف التلوّث البيئي المُزمن بقابس؟ 

عبدالسلام الزبيدي 
في دولة لا أثر فيها لناطق باسم رئاسة الجمهورية ولا باسم رئاسة الحكومة، من الطبيعي أن تختلط حبال البروباغندا بنِبال التشكيك. قد نجد أعذَارًا وتبريرات من داخل منظومة الحكم لغياب هذه المهمة في قصريْ قرطاج (رئاسة الجمهورية) والقصبة ( رئاسة الحكومة)، لكن ما يصعب استيعابه هو غياب مهمة مستشار اتّصال وإعلام بالقصْريْن. ومع هذا الغياب المضاعف يتسلّل غير الرسميين ومنتحلو الصفة من الطفيليات على جسم الدولة ومؤسساتها، وفي الوقت ذاته تنفتح بوّابة الأسئلة في وقت غلق منافذ الولوج إلى المعلومة.
إنّ ما يجري في ولاية قابس (جنوب شرق تونس) جرّاء آثار معمل الحامض الفسفوري بالمجمّع الكيميائي ومخاطره، ليس وليد هذه اللحظة السياسية بكلّ تأكيد، بل هو من حصائد خيارات تنموية لسنا في موضع القدرة على الحكم بانتهاء صلوحيتها أو بلوغها مرحلة التعديل أو الاستبدال. لكن لا أحد يُنكر أمريْن اثنيْن، أوّلهما وجود مشكل حقيقي وموضوعي لا بدّ من مجابهته وإزالة مخاطره، وثانيهما أنّ من يحكم الآن وهنا يتحمّل الوزر الأكبر في إيجاد مسالك الحلّ. وذلك من استتباعات تسلّم أمانة الحكم فضلا عن وضع منظومة تميل إلى الاستئثار شبه المطلق بتسيير دواليب الدولة.

الشعب يريد وسعيّد يصنع السياسات

لن نتطرّق إلى تفاصيل ما يجري من أحداث احتجاجية من التظاهر السلمي إلى الحرق، ولن نغوص في رد فعل السلطة من استنجاد بالقوة العسكرية فضلا عن الأمنية، ولن نُفصِّل القول في المضار صحيّة التي تصل حدّ الأمراض التنفسيّة والسرطانية المؤديّة إلى الوفاة، ولن تكون الانعكاسات السلبية على البيئة والفلاحة برّا وبحرّا مدار اهتمامنا.
فقد اخترنا في هذا المقال تتبّع ما يمكن تسميته بسياسة رئيس الجمهورية قيس سعيّد في التعاطي مع ملف التلوّث البيئي ومخاطر معمل الحامض الفسفوري بقابس المؤسس سنة 1972 والمضاف إليه الشركة العربية للأسمدة الفسفاطية والآزوتية سنة 1979، ثمّ مصنع أسمدة قابس سنة 1985.
كان سعيّد قبل 2019 مرشّحا للرئاسة “ببرنامج انتخابي” شعاره “الشعب يريد”، وهذا الشعب يريد الآن محو آثار العدوان البيئي والصحي والاقتصادي لهذه المصانع. وفي 25 جويلية 2021 اتّخذ إجراءات استثنائية من أجل إعادة تسيير دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي، ولضمان نجاعة النتائج وسرعتها استأثر لنفسه بالسلطتين التنفيذية والتشريعية (الأمر 117 الصادر يوم 22 سبتمبر 2022). وانطلاقا من أوت 2022 تاريخ نشر دستور 2022 أسند سعيّد إلى نفسه وبمصادقة الشعب المشارك في الاستفتاء الصلاحية الحصرية لضبط سياسات الدولة (الفصل المائة من الدستور).
ولسنا في حاجة إلى التذكير بمقتضيات الدستور التي خطّها سعيّد بنفسه والمتضمنة أحكاما واضحة بأنه هو من يعيّن الحكومة ورئيسيها وكبار مسؤولي الدولة ويقيلهم دون حاجة إلى عرض التسميات أو الإقالات على مجلس نواب الشعب أو مجلس الوزراء. ومن الطبيعي أنّ المسؤولية تكون بقدر الصلاحيات، وأنّه لا معنى للقول إنّ الحكومة هي المسؤولة وليس رئيس الجمهورية. والحال أنّ ساكن قرطاج هو من يضبط السياسات ويعيّن الحكومات والمسؤولين.
 لن نرجع إلى الوراء، بمعنى أنّنا سنكتفي بمرحلة تسلّم سعيّد السلطة في مرحلتيها أي وفق دستور 2014 ثم بعد الإجراءات الاستثنائية إلى اليوم (بعض رجال القانون يعتبرون أنّ الإجراءات تحوّلت إلى نظام استثناء).

سعيّد والإنصات زمن ما قبل الاستثناء

كانت أولى محطات اهتمام رئيس الجمهورية بشكل علني بملف التلوث البيئي بقابس يوم 6 أكتوبر 2020 أي بعد حوالي سنة من صعوده إلى سدّة الحكم. أنصت سعيّد إلى سكان قابس عبر المواطن محرز الحمروني رئيس نقابة الصيد الساحلي بقابس المدينة وكاتب عام جمعية شط السلام للتنمية المستدامة الذي جاءه محمّلا برسالة منهم تتعلّق بالوضع البيئي في الولاية وتأثيراته في صحة السكان الذين دعوه إلى التدخّل العاجل لحلّ مشكل التلوّث الذي يهدّد المنطقة منذ سنوات. ومجمل العبارات منقولة عن بلاغ لرئاسة الجمهورية.
اعتبر الضيف أنّ الوضع البيئي والصحي ومشكلة التلوث عموما ” مشكلة أمن قومي”، ومعلوم أنّ رئيس الجمهورية وفق دستور 2014 أو 2022 يضطلع بمهمة رئاسة هذا المجلس. وتعرّض الحمروني لمعضلة التلوث البحري بسبب إلقاء مادة الفوسفوجيبس وتفشّي الأمراض وتصحّر الواحات المجاورة للمنطقة الصناعية. كما تمّ، وفق البلاغ التطرّق إلى مختلف الحلول الممكنة.
فما يمكن الاحتفاظ به، هو اهتمام رئيس الجمهورية بالمعضلة. وبالنظر إلى أنّ تسيير وزارتيْ الصناعة والبيئة كان زمن الاستقبال من مشمولات الحكومة ومراقبة البرلمان وفق الدستور الذي عطّل عمله سعيّد ثم ألغاه، فكان المدخل مضاعفا الأوّل الإنصات إلى “ممثّلي” الشعب غير المنتخبين، والثاني النظر في إمكانية توسيع مواطن نظر  مجلس الأمن القومي حتّى يمكن الولوج في ملفات السلطة التنفيذية. مع الإشارة إلى أنّ الرئيس الأسبق الباجي قايد السبسي قد انتهج الأسلوب نفسه.
أمّا النقطة الثانية التي نحتفظ بها، فهي الوعي بخطورة مادة الفوسفوجيبس. لكن من غرائب القرارات الحكومية في عهد الدستور الجديد بعد إجراءات الاستثناء أنّ حكومة سعيّد التي ينسّق أعمالها في ذلك الوقت رئيس الحكومة كمال المدوري وتشرف على وزارة الصناعة فيها الوزيرة نفسها المشرفة اليوم (فاطمة ثابت شيبوب) اتّخذت قرارا باعتبار أنّ هذه المادة نافعة ولا تلحق الضرر بالبشر والبيئة، في حين أنّ أهالي قابس يعتبرونها مميتة.
أمّا ثالث الخلاصات، فأفضل صياغاتها في ذلك السياق أن تكون في شكل أسئلة: ماذا فعل سعيّد بعد الإنصات؟ هل قام بتفعيل الموضوع لدى مجلس الأمن القومي وفق طلب الشعب ممثّلا في الموفد؟ هل تمّ اتّخاذ إجراءات عملية للحدّ من الآثار وليس حلّ المعضلة بأسرها؟ هل أذن بتفعيل القرارات الحكومية لسنة 2017 التي تنصّ على تفكيك الوحدات الملوثة فضلا عن استبدال التقنيات والصيانة؟ ولسنا في حاجة إلى الاجابة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما يحدث اليوم في الولاية ذاتها.

  وعود زيارة قابس

بعد ثلاثة أشهر من استقبال رئيس الجمهورية لممثّل الولاية غير المُنتخَب، وتحديدا يوم 14 مارس 2021 زار سعيّد قابس إثر حادث جدّ بمصنع الإسفلت بالمنطقة الصناعية وأسفر عن وفاة خمسة أشخاص، وكان مرفوقا بالمستشار الأوّل المكلف بالأمن القومي عبدالرؤوف عطاء الله ومدير الصحة العسكرية مصطفى الفرجاني الذي غدا اليوم وزيرا للصحة.
استمع سعيّد إلى بعض نواب الشعب وممثلي عائلات الضحايا. وكانت الزيارة فرصة تمتّ خلالها إثارة معضلات المنطقة الصناعية، وقد استمع إلى ” عدد من الأهالي الذين عبروا عن امتعاضهم من الوعود التي لم تُنجز منذ سنوات واستيائهم من استمرار تدهور الأوضاع الصحية والبيئية في شط السلام وفي كامل الجهة بسبب المواد التي تفرزها المنطقة الصناعية وخاصة المجمع الكيميائي” وفق ما جاء في بلاغ رئاسة.
ومعلوم أنّه بعد حوالي 4 أشهر من الزيارة اتّخذ سعيّد قراره بمركزة السلطات بين يديه بهدف إعادة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي، وقد يكون ذلك ممهدا لإنجاز الوعود المتراكمة من الحكومات المتعاقبة خاصة في موضوع التلوّث. لكن يبدو أنّ الواقع لا يسير في اتّجاه الأهداف المعلنة من السلطة أو طموحات الشعب الذي يريد ويعرف ما يريد كما يردّد رئيس الجمهورية ذاته.

قرار حكومي: حذف الفوسفوجيبس من النفايات الخطرة

أصدر مجلس وزاري مضيّق ترأسّه رئيس الحكومة السابق كمال المدوري في 5 مارس 2025 قرارا بحذف مادة الفوسفوجيبس من قائمة النفايات الخطرة وإدراجها كمادة منتجة واستعمالها في مجالات متعدّدة وفق شروط. ومن الضروري التذكير بمسألتين، الأولى أنّ هذا القرار أصدرته حكومة يرأسها على وجه الحقيقة من حيث الصلاحيات الدستورية تنفيذيا رئيس الجمهورية، والثانية أنّ مجمل جمعيات المجتمع المدني والمنظمات المهنية بالجهة بل وعموم المواطنين عبّروا عن رفضهم لهذا القرار.
عبّر الشعب عن إرادته الرافضة لهذا القرار السائر في عكس اتّجاههم، وعكس اتّجاه ما أنصت إليه رئيس الجمهورية في قصر قرطاج وفي قابس. وقد صدر القرار في الرائد الرسمي للبلاد التونسية أي أصبح ذا طابع قانوني وإلزامي. ودافعت عنه وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم فاطمة ثابت شيبوب قبل أن يصدر، وتحديدا في شهر أكتوبر 2023 بالبرلمان مشدّدة على أنّ القرار وليد دراسات علمية، وأنّ “مادة الفوسفوجيبس لا تصدر إشعاعات ولا تُصنَّف مادة خطرة أو تُشكّل تهديدا لصحة المواطنين، بل هي مادة منتجة وهو ما يفتح المجال لتثمينها”.
علما أنّ القرار جاء بعد وقت وحيز من استقبال سعيد لوزيرة الصناعة فاطمة ثابت شيبوب (4 مارس 2025) ودعوته إلى إيجاد حلّ نهائي لاستغلال الفوسفوجيبس بقابس. فكان الحلّ “تبرئة” هذه المادة من كبائر الأمراض والتلوث بل استصدار ما يمكن وصفه بالفتوى العلمية للحكم بنفعها.

صمت رئيسة الحكومة والوزراء

وبتتبّع سير الأحداث تكرّرت الحوادث ذات الصلة بالمجمّع الكيميائي، وتحرّك الشارع بالجهة. وكان الردّ بمحاولة تطويق التحركات بالقوة العسكرية والأمنية سواء لحماية المصانع والمقر الإداري أو لضبط الأوضاع. ومثلما أشرنا أعلاه تفتقد السلطة التنفيذية في رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة خطة الناطِق أو المُخاطب الرسمي أو مستشار الاتّصال الذي بإمكانه تفعيل خطة للتفاعل مع الأزمة، وهو ما من شأنه الانعكاس سلبيا على عموم المواطنين المحتّجين الذين لا يجدون مخاطبا.
وتتضاعف الأزمة مع الصمت المطبق والمطلق لرئيسة الحكومة سارة الزعفراني الزنزري التي رغم مرور سبعة أشهر عن تسلّمها مهامها لم يسمع التونسيون صوتها إلاّ عند آداء اليمين أو خلال مشاركتها في مؤتمرات خارج البلاد.
 ولم يكن حظ المواطنين بولاية قابس أسعد من حظ باقي التونسيين، فقد غاب عن أسماعهم في هذه الأزمة وزير البئية الحبيب عبيد ووزيرة الصناعة فاطمة ثابت شيبوب. بل ارتكبت الوزيرة ما يمكن وصفه بالخطإ الاتصالي والسياسي حيث تمّ الإثنين 13 أكتوبر نشر بلاغ على صفحة الوزارة بمنصة فيسبوك يسير على عكس سبيل تهدئة الأزمة ثمّ سحبه بعد وقت وجيز. والبلاغ يتحدث عن نقل الفسفاط بطرق غير ملوثة  للجهة المحتجّة على تحويله وتصنيعه بسبب الآثار السلبية بيئيا وصحيا واقتصاديا.

نموذج التعاطي مع الأزمات

المتحدّث الرسمي باسم الدولة هو رئيسها وذلك وفق الدستور الذي يهبه الصفة ويمنحه صلاحية ضبط السياسات وتعيين الحكومات. وبمجمل صفاته تلك استقبل رئيس يوم 11 من شهر أكتوبر فاطمة ثابت شيبوب وزيرة الصناعة والمناجم والطّاقة وحبيب عبيد وزير البيئة.
لن أحلّل بالتفصيل ما قاله رئيس الجمهورية. فقط أكتفي بالدعوة إلى قراءة بلاغ الرئاسة على ضوء ما تمّ ذكره أعلاه. فما جاء في البلاغ يعكس سياسة الدولة التي ضبطها رئيسها. ويعكس طريقة تسييرها في ظلّ حرص سعيّد على إعادة سير دواليبها بشكل طبيعي. فبيْن طريقة التعاطي مع هذه الأزمة وغيرها من أزمات وشائج قربى. ومضمون البلاغ نموذج يحتاج مجالا أوسع لتفصيل القول فيه.
رئيس الدولة (وفق البلاغ) وضع إصبعه على الأسباب المباشرة للأزمة الطارئة. فذكر أنّها تتعلّق بالصيانة أو في عدم إجراء الاختبارات المطلوبة، أي أنّ الأخطاء تتعلّق بتقصير بشري. ودعا إلى وضع خطة، مشددا على ضرورة أن تكون معتمدة على خطة شبابية جاهزة منذ عشر سنوات. فالخطة معلومة زمن استقباله موفد قابس، وزمن زيارته للمنطقة الصناعية، وزمن استقبالاته لوزيرة الصناعة الحالية والسابقة. وفي ختام البلاغ كانت الوعود بتحقيق المطلوب، والإشادة بالمواطنين الذين سيبنون تونس الجديدة، والتنديد بالملوّثين والمتلوّثين.
وفي ما يلي نص البلاغ كما ورد من رئاسة الجمهورية:
“أسدى رئيس الدّولة تعليماته بتوجيه فريق مشترك من الوزارتين المذكورتين إلى معمل الحامض الفسفوري بالمجمع الكيميائي بقابس لإصلاح ما يجب إصلاحه في أسرع الأوقات، موضّحا أنّه يتابع الوضع بصفة مستمرّة وأنّه تمّ الوقوف على عديد الإخلالات سواء في عمليّات الصيانة والتّشغيل التي أدّت إلى تسرّبات الغاز أو في مستوى عدم إجراء الاختبارات المطلوبة على المعدّات في المواعيد المحدّدة من قبل مختصّين معتمدين.
وشدّد رئيس الدّولة على الإسراع بوضع خطّة استراتيجيّة لوضع حدّ نهائي لهذه الكوارث البيئيّة تكون مستوحاة من الخطّة التي أعدّها شباب قابس منذ أكثر من عقد من الزمن.
كما أكّد رئيس الجمهوريّة على أنّه لا تسامح مع من أخلّ بواجباته، كما لا مجال لأن تكون هذه الأوضاع محلّ مزايدات أو توظيف من الداخل أو الخارج على السواء، فأهلنا بقابس كما في سائر أنحاء الجمهوريّة سيلقون حقوقهم كاملة، فهم الثّروة وهم السدّ المنيع وهم الذين سيبنون تونس الجديدة كما يريدون، تونس الخضراء الخالية من كل أشكال التلوّث، والخالية من كل أشكال الملوّثين المتلوّثين”.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *