لا تحتاج رئاستا الجمهورية والحكومة ناطقا رسميّا تماشيا مع طبيعة النظام ولأنّ المهمّة أُسْنِدت لمؤسسات الإعلام العمومي بغضّ النظر عن النجاح في الأداء من عدمه
عبدالسلام الزبيدي
حتّى نفهم الواقع السياسي في تونس اليوم يكفي أن نطرح أسئلة عن غياب مؤسسات بعينها من المفترض أن تكون أساسيّة بحكم الدستور الجاري به العمل.
وتأتي في المقدّمة المحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء باعتبارهما مؤسّستين دستوريتين وفق دستور 2022 الذي خطّه رئيس الجمهورية قيس سعيّد بيمينه تاركا وراء ظهره النسخة التي اقترحتها لجنة شكّلها بأمْرِ يمينه ومرسومه الذاتي.
والحال أنّ بعثهما لا يتطلّب انتخابات ولا تدافع أو توافق، فالمسألة لا تتجاوز صياغة نصّ قانوني وسلسلة تعيينات في وظائف قضائية. وكفى الله التونسيين شرّ التنازع الديمقراطي الذي يُعكّر مزاج المواطن ويؤثِّر في صحّته النفسية وفي نسب النمو والاستقرار الأمني وغيرها ممّا يعطّل سير دواليب الدولة.
لن نقوم بجردٍ للمؤسسات الغائبة وكذلك الوظائف، ولن نبحث عن الأسباب المباشرة والأخرى المفترضة، وسنكتفى بمحاولة فهم واقعنا السياسي وتحديدا آليات عمل السلطة الحاكمة في ظلّ غياب مهمّة أو وظيفة من المفترض أنْ تكون جسرا بين الحاكم والمحكوم سواء في زمن السير العادي أو زمن الأزمات الطارئة أو المستجدّة أو ربّما المستمرّة. والمقصود هنا خطة أو مهمة الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية أو الحكومة.
حول تركيبة ديوانيْ رئاستيْ الجمهورية والحكومة
عند النظر في تركيبة ديوانَيْ رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، نجد أمرا مشتركا من الطبيعة نفسها لزاوية النظر التي تمّ اختيارها. ففي ديوان رئيس الجمهورية قيس سعيّد نجد 11 عضوا، لكن “المفاجأة” أنّه لا وجود لشخص بصفة مدير ديوان وذلك منذ أن استقالت نادية عكاشة من مهامها يوم 25 جوان 2022 ثم صدر أمر رئاسي بإعفائها (لا نعلم إلى اليوم هل أنّها استقالت أم أقيلت). طبعا من المفترض أن يقوم أحد الأعضاء بهذه المهمة، لكن لا يوجد إعلان رسمي عن ذلك، فغياب الإعلان دليل عن إشكال اتصالي وإعلامي في ظاهره وسياسي في جوهره.
أمّا بخصوص رئاسة الحكومة، فإنّه منذ أن تسلّم كمال المدوري مهامه رئيسا للحكومة يوم 7 أوت 2024 أي منذ أكثر من 7 أشهر لم يصدر في الرائد الرسمي للبلاد التونسية ما يفيد تسمية مدير ديوان خلفا لسامية الشرفي بن قدور التي أعفيت من مهامها على رأس الديوان بعد يومين من دخول المدوري للقصبة. وعلى غرار رئاسة الجمهورية، فإنّه من الطبيعي أن يكون لرئيس الحكومة مدير للديوان، أي من الناحية العملية يوجد مكلّف بهذه المهمة، لكن يبقى السؤال مفتوحا حول سبب عدم إعلان ذلك في الرائد الرسمي. علما أنّ التعيينات في الوظائف العليا تصدر بأمر رئاسي، فقرار التعيين والنشر بيد سعيّد ولا يملك المدوري باعتباره رئيسا للحكومة إلّا صلاحية الاقتراح. فتلك هي أحكام دستور 2022 الذي جاء ليحمي الدولة من الانفجار والتفكّك، ففي معجم الرئاسة توزّع السلطات بين أشخاص أو مؤسسات يؤدي إلى إلحاق الضرر بالدولة (التفجير من الداخل).
وتتمثّل النقطة المشتركة الثانية بين ديوانيْ قرطاج والقصبة في غياب مكلّف بالملفّين الاتّصالي والإعلامي. فنحن لا نجد رئيسا لمكتب الاتّصال الرئاسي منذ استقالة رشيدة النيفر يوم 22 أكتوبر 2020 وغيرها من استقالات لباقي الأعضاء على غرار هالة الحبيب وريم قاسم. وهذا يعني أنّ سبل الاتّصال المؤسساتي التخصّصي بين الإعلاميين والقصر الرئاسي غدت مقطوعة. ولسنا في وارد تحليل هذه المسألة، فالإشارة كافية.
ولم يخرج ديوان رئيس الحكومة عن صراط ديوان الرئاسة، فقد اختفت مهمّة المستشار الإعلامي عن القصبة منذ تعيين نجلاء بودن رئيسة للحكومة (التكليف يوم 29 سبتمبر 2021 والمباشرة يوم 11 أكتوبر)، وسار أحمد الحشاني الذي خلفها يوم 2 أوت 2023 على دربها. مع الإشارة إلى أنّ في القصبة مصالح للاتّصال والإعلام، وهي تقوم بمهامها في البعد التقني وفي إطار التكليفات. وبالرغم من تكليف مسؤول للإشراف المباشر، فإنّ دوره لم يرتق إلى دور المستشار الإعلامي بدلالاته السياسية.
وبغياب هذه المهمة/ الوظيفة سواء في قصر قرطاج أو في القصبة، فإنّ الهياكل المهنية والنقابات والمؤسسات الإعلامية سواء العمومية أو الخاصة وكذلك الهيئات المستقلة (هايكا) فقدت المخاطب المباشر معها. وقد تكون لنا عودة في مقال آخر نفصّل فيه القول في هذه المسألة وانعكاساتها المهنية والسياسية، ونعرّج على الجدل المثار بعد دعوة أحد ممثلي الهياكل المهنية (الإذاعات الخاصة) السلطات إلى إعادة بعث وزارة للإعلام. فهذه الوزارة بالنسبة إليه حاجة حيوية وبالنسبة إلى المؤمنين بالانتقال الديمقراطي وباستقلالية الإعلام انتكاسة مضاعفة مع تقديمهم تصوّرًا بديلا لا ينفي أو لا يتناقض مع وجود مكلّف بهذا الملف مخَاطبا وليس سلطة وزارية.
الناطق الرسمي البديل
إنّ محصّلة ما سبق هو أنّ السلطة التنفيذية في تونس بمقوّمها الأساسي المتمثّل في رئيس الجمهورية صاحب السلطات والصلاحيات الواسعة -وأهمّها في مقامنا رسم السياسات العمومية- تسير دون أن يكون لها مدير ديوان يشرف على التنسيق بين مختلف المؤسسات ويضبط الأجندة وغيرها من المهام. ويغيب في الوقت ذاته عن المؤسسة الأم (رئاسة الجمهورية) والمؤسسة المنبثقة عنها (الحكومة) بحكم الدستور الجديد الذي سحب تشكيل الحكومة من الأحزاب والبرلمان، المكلّف بالإعلام والاتّصال باعتباره همزة وصل بين المؤسستين والمؤسسات الإعلامية المحلية والدولية من ناحية، وبينهما وبين الشعب عموما.
وإذا كان الوضع على هذا الحال، فمن “الطبيعي” أن يسجّل الناطق باسم الرئاسة أو الحكومة غيابه من هذا المشهد. وهذا الغياب ليس بالضرورة نتيجة غياب مدير الديوان أو المكلّف بالإعلام، فالمسألة أعمق بكثير، إنّها سياسة دولة وليست صدفة أو فراغا ينتظر الملء.
لن نجانب الصواب عندما نقول بأنّ مهمة الناطق الرسمي باسم هذه المؤسسة السيادية أو تلك قد غدت ثابتا ليس من ثوابت الدول الديمقراطية فقط، بل هي من ثوابت الدول المعاصرة (بمعنى الموجودة الآن) بغضّ النظر عن طبيعة النظام وطبيعة الحكم، وبعضّ النظر عن التموقع الجغرافي لهذه الدولة أو تلك.
إنّه استثناء تونسي يعود إلى طبيعة السلطة الحاكمة ورؤيتها لطريقة تسيير شؤون الدولة. فرئيس الجمهورية قيس سعيّد يعتبر الوسائط بمختلف مستوياتها وأشكالها تعويضا غير شرعي وغير مشروع للعلاقة التي ينبغي أن تكون مباشرة بين الحاكم والمحكوم أو من خلال مؤسسات منبثقة عن الإرادة الشعبية. وبناء على هذا التصوّر فإنّ رئيس الجمهورية ليس في حاجة إلى من ينطق باسمه وباسم المؤسسة التي سكنها بفضل تفويض شعبي.
وبخصوص رئيس الحكومة، فهو بحكم الدستور ليس أكثر من مساعد لرئيس الجمهورية على تنفيذ السياسات التي يرسمها بنفسه. فمهامه تقوم على تنسيق العمل بين أعضاء الحكومة الذين يعيّنهم الرئيس بنفسه ويقيلهم (رئيس الحكمة له حقٌّ إبداء الرأي نظريّا)، وتبعا لذلك فهو لا يحتاج إلى ناطق رسمي. ولو افترضنا نظريا بأنّ السلطة (الوظيفة) التنفيذية تحتاج ناطقا رسميا، فإنّ موقعه سيكون في رئاسة الجمهورية وليس رئاسة الحكومة، أي حيت تُرسَم السياسات، أمّا عند التنفيذ فتكفي البلاغات والفيديوهات الصالحة للدعاية والشرح وربّما الأرشفة.
إنّ غياب ناطق رسمي في رئاستيْ الجمهورية أو الحكومة في تقديري خيار يتناسب مع طبيعة النظام وخياراته وسياساته. وهنا نؤكد مرّة أخرى أنّ لرئيس الجمهورية قيس سعيّد سياسة إعلامية واتّصالية وذلك عكس ما يظنه البعض. ونحن نكتشف هذه السياسة من خلال الممارسة. ولولا هذه السياسة لما كان من الممكن استدعاء مسؤولين أُوَل عن المؤسسات الإعلامية العمومية ودعوتهم لأن يكون الخط التحريري لتلك المؤسسات منخرطا في ما سماه بحرب التحرير الوطنية أي خياراته السياسية.
لا تحتاج رئاستا الجمهورية والحكومة ناطقا رسميّا لسببين، أوّلهما تماشيا مع طبيعة النظام، وثانيهما أنّ تلك المهمة أُسْنِدت لمؤسسات الإعلام العمومي بغضّ النظر عن نسبة النجاح في الأداء.