عبدالسلام الزبيدي
فلْنَتذكّر أنّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد اقترحت خلال سنتيْ 2018 و2019 التقليص من قيمة الدعم الموجّه إلى تونس بأكثر من النصف، أي من حوالي 185.5 مليون دولار إلى 80 مليون دولار. وللتاريخ، لم تتمكّن الإدارة من تمرير القرار، حيث كانت الغلبة للمؤسسات التي ضمنت الحفاظ على ذلك الفتات بدلالاته السياسية والرمزية. دلالات سِجِلُّها سلبي بكلّ المقاييس. فمن يحتاج المساعدة معلوم، ومن يقبلها عليه القطع مع التبجّح بالسيادة وتزيين خطابه بها.
قد يرى البعض أنّ نموذج الانتقال الديمقراطي لم يعد يُغري أو أنّه استنفد أهدافه، وقد يكون السبب مختلفا. فترامب وإدارته لم يستهدفا تونس، وكلّ ما قاما به هو تنفيذ سياسة التقليص من دعم الخارج بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين. وذاك البلد الواقع شمال إفريقيا الذي لم يسبق للرئيس المنتخب نطق اسمه سواء في عهدته الأولى أو خلال حملته الانتخابية أو لقاءاته الإعلامية، لا يعني له شيئا. إنّه خارج رادار اهتماماته. وليس في الأمر انتقاص من تونس كيانًا ومكانةً.
دلالات “اللامبالاة المتبادلة”
لنضع أرجلنا على الأرض ونُحدّد موقعنا من صنع السياسات العالمية، ونضع سيناريوهات التأثُّر لا التأثير. لسنا من داعمي القول بأنّ تونس اليوم بصدد صنع نموذج للإنسانية قابل للتعميم، رغم اعتقادي أنّه من الضروري لمن يريد النهوض أن يصنع فكرة أو سردية أو مؤسسة تكون قادرة على الاستقطاب والجذب والحضور في العالم بعيدا عن مقولات التصدير والتبشير.
إذا كان النموذج الديمقراطي الناشئ أو الانتقالي قد فَقَدَ جاذبيته، فإنّ المنظومة البديلة الحالية تبدو للعالم طاردة لا دافعة؛ أي أنّنا في وضع ارتكاس وفق مقاييس الولايات المتّحدة الأمريكية سواء في عهدها الديمقراطي (جوزيف بايدن) أو الجمهوري
(دونالد ترامب الأوّل والثاني).
من المشروع طرح السؤال حول مدى معقولية الارتقاء بالسياسة الأمريكية إلى المستوى المعياري وجعلها مُحكِّمًا. والردّ على الاعتراض بسيط يتمثّل في أنّ زاوية مقالنا هذا تتمثّل في النظر في العلاقة المحتملة بين تونس وواشنطن زمن ترامب 2.0. هذا الرئيس الشعبوي الذي لم يذكر اسم إفريقيا طوال الحملة الانتخابية، ولم يوفد أيّ عضو في حكومته إلى تونس خلال عهدته الأولى (زارت تونس قيادات من الأفريكوم تمثيلا للناتو وليس للولايات المتّحدة). هذا الرئيس رافع شعار أمريكا أوّلا والداعي إلى تقليص المساعدات المالية عن تونس لأسباب داخلية. هذا الرئيس الذي لا تهمُّه المُثل والمبادئ التي تسير وفقها هذه الدولة أو تلك، ولا معنى عنده للانتقال الديمقراطي أو الاستبداد السياسي أو طبيعة أنظمة الحكمة تداولية كانت أو وراثية.
هذا الرئيس المنتخب الذي لم يحظ، وفق ما هو معلن ومنشور، ببرقية تهنئة من رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد خلافا لقادة لبقية دول المغرب العربي دون استثناء. فرغم “انحياز” ترامب للمغرب، لم تتأخّر السلطات الجزائرية في الإبراق مستخدمة عبارات دبلوماسية تنظر إلى المستقبل وتعبّر عن الاستعداد للتعاون على أصعدة شتّى. أمّا برقية السلطات المغربية فكانت أشبه ما يكون بالتهليل.
قد يعترض البعض بالقول إنّه أمام السلطات التونسية متّسع من الوقت، ليس للتدارك وإنّما للقيام ب”الواجب الدبلوماسي”. فالتهنئة قد تأتي مع تسلّم ترامب مقاليد الحكم يوم 20 جانفي 2025، ولا معنى لاستعجال الإبراق قبل الأوان. والردّ لا يحتاج كبير اجتهاد. ذلك أنّ سعيّد هنَّأ من تمّ انتخابه قبل تسلّمه العهدة رسميّا (مصر والجزائر)، فضلا عن أنّه قد تلقّى التهاني مباشرة بعد الإعلان الأوّلي بانتخابه.
إنّ لعدم المبادرة بالتهنئة بما هي فعل سلبي دلالات من الجنس نفسه (سلبية). من ذلك غياب تهاني الدول الغربية (من بينها الولايات المتّحدة الأمريكية) بفوز قيس سعيدّ بعهدة ثانية وفقا لدستور 2014 وعهدة أولى وفق دستور 2022، تعني في ما تعنيه “عدم رضا” عن طريقة إدارة الشأن التونسي الداخلي. وقياسا على ذلك، يمكن اعتبار عدم تهنئة سعيّد لترامب وبالتالي الولايات المتحدة تعبيرا دبلوماسيا عن عدم رضاه عن سياسة الغرب، ومنه أمريكا، تجاه تونس. فالخطاب السياسي للسلطات التونسية يرفض ما يصفه بمحاولات التدخّل في ما هو سيادي بأساليب عناوينها متعددّة تشمل تقييم طبيعة السلطة منذ لحظة 25 جويلية 2021، والعلاقة بالمعارضة السياسية والمجتمع المدني، ووصولا بالضغوط المالية غير المباشرة.
بصمات ماركو روبيو
يمكن أن نخلص إلى أنّ قيس سعيّد قد عامل الولايات المتحدة الأمريكية ممثّلة في استحقاقها الانتخابي بنوع من اللامبالاة، أو هكذا يبدو لنا. هذه اللامبالاة نفسها لم تكن فقط عنوان التعاطي الأمريكي مع الاستحقاق الانتخابي التونسي، بل كانت عنوان طريقة تعاطي دونالد ترامب مع الشأن التونسي في كلّ أبعاده خلال عهدته الأولى، ومن المتوقّع أن يستمر “التوجّه اللامبالي” ذاته خلال العهدة الثانية وفق مجلة “إفريقيا الفتاة”.
وللإشارة، فإنّ الصمت أو اللامبالاة الرسمية الأمريكية اصطحبه موقف نقدي من اللجنة الفرعية للعلاقات في مجلس الشيوخ. لقد وصف بيان اللجنة الصادر بعد يوم واحد من الاستحقاق الانتخابي الذي جرى يوم 6 أكتوبر 2024 المسار السياسي في تونس بأنّه “تفكيك للديمقراطية بشكل منهجي من خلال القضاء على الضوابط والتوازنات المستقلّة والتلاعب بالقواعد لمنع أيّ منافسة حقيقية”، معتبرا أنّ تونس تسير نحو إعادة الدكتاتورية في ظل تفاقم الوضع الاقتصادي.
بين لامبالاة الجانبين التونسي والأمريكي، تتجّه مواقف بعض المشرّعين نحو نقد النظام التونسي. ولسنا في وارد تفكيك هذه المسألة لكنّنا نعتبرها أحد المؤشِّرات إن لم نقل المحدّدات لسياسة ترامب المستقبلية تجاه تونس خاصة في ما يتعلّق بتقييم طبيعة النظام ومدى التزامه بـ”المُثل الأمريكية”.
صحيح أنّ ترامب لا يولي الاهتمام الكبير لمسألة الديمقراطية ودعم المجتمع السياسي والمدني والضغط على الأنظمة من خلال استخدام “القوة الأمريكية الناعمة”. لكن ينبغي الانتباه إلى بعض الأمور من بينها، قدرة المؤسسات التشريعية والاستخباراتية والأمنية (الدفاعية) على التأثير، وإمكانية اللجوء إلى تلك المبادئ ذاتها ذريعةً للضغط من أجل الحصول على مكاسب في ملفات أخرى على غرار التطبيع بما هو شرط إمكان إعادة هيكلة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إضافة إلى قدرة وزير الخارجية المحتمل على التأثير.
يبدو أنّ العامل الأخير سيكون مؤثِّرًا بالفعل في صياغة السياسات الخارجية الأمريكية، وفي الحدّ الأدنى في طريقة تنفيذها. وكما هو معلوم رشّح ترامب النائب الجمهوري ماركو روبيو ليشغل منصب وزير الخارجية. وما يُعرف عنه هو الدعم المطلق لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ودعوته إلى التشدّد في التعاطي مع بعض الأنظمة التي يعتبر أنّها معادية للديمقراطية. والحديث هنا ليس على كوريا الشمالية والصين وإيران فقط، وإنّما يمتدّ إلى الجزائر التي قدّم في حقّها عريضة برلمانية لتسليط عقوبات بداعي انتهاكها مبادئ الديمقراطية. طبعا ذلك هو المُعلن، أمّا المقصد فنجده في ملفات العلاقة مع المغرب والتموقعات العسكرية في الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء.
استقرار تونس حاجة أمريكية!
يُخبرنا التاريخ الأمريكي بأسماء وزراء خارجية ومستشارين للأمن القومي كانت لهم الكلمة الفصل في رسم السياسات وجعل ساكن البيت الأبيض تابعا ومنفّذا لا صانع سياسات فضلا عن القرار. ولا يعني هذا القول أنّ روبيو سيكون له أثر فعلي على سياسة ترامب تجاه تونس وإخراجها من دائرة اللامبالاة إلى مدار الضغط وربّما أكثر. إنّ القصد هو ضرورة الانتباه إلى هذا العامل المؤثِّر في الحدّ الأدنى على طبيعة العلاقة بين الولايات المتّحدة الأمريكية وتونس، حتى لا نقول المُحدِّد.
لن تكون العلاقة بين تونس وواشنطن محكومة فقط بتوجّهات ترامب الشخصية من ناحية وطبيعة وزير الخارجية من ناحية أخرى، بل ستتجاوزها إلى عنصر ثالث على غاية من الأهميّة وهو العنصر الأمني بمعناه الشامل والذي تعني به الولايات المتّحدة الأمريكية الجانب الدفاعي.
يبدو أنّ هذا العنصر بالذات يخدم الدولة التونسية التي لم تتأثّر علاقاتها الأمنية (الدفاعية أو العسكرية) مع الدولة الأمريكية. فمن المساعدات العسكرية بالعدّة والعتاد والتدريب، إلى برامج الدعم اللوجستي، إلى المناورات (التدريبات) المشتركة التي لم تنقطع. ولو فصّلنا في الأمر لطال.
وكان هذا التعاون محط إشادات متتالية من سفراء أمريكيين ومسؤولين تونسيين. كما تكرّرت زيارات قادة الأفريكوم الراجعة بالنظر إلى الحلف الأطلسي شاهدةً بمستوى التعاون ومتطلّعةً إلى المزيد. ولم يخف المسؤولون الأمريكيون دورهم في منع حدوث ما يسيء إلى تونس في إشارة إلى داعش.
وليس خافيا أهمية الاستقرار في تونس بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى مرمى الحدود التونسية الليبية جحافل المليشيات الروسية (فاغنر) وعلى الحدود الغربية (الجزائر) دولة خصّصت ربع ميزانيتها للتسلّح، علما أنّها من أكبر الحرفاء لروسيا.
فهل يكون الملف الأمني الدفاعي عاملا حاسما لإخراج العلاقة بين تونس وواشنطن في عهد ترامب الثاني من دائرتيْ اللامبالاة وربّما الضغط إلى منطقة التعاون متعدّد الأبعاد؟