عبدالسلام الزبيدي
يؤدّي حوالي 11 ألف تونسيّ مناسك الحج، وفي الوقت ذاته يجري أكثر من 150 ألف تلميذ اختبارات الدورة الرئيسية لامتحان البكالوريا. وليس للتونسي من سبيل لمتابعة مجريات الحدثين المهمّين إلّا الاتّصال الحكومي الرسمي، وذلك خلافا لما عهده التونسيون طوال سنوات الانتقال الديمقراطي.
انحدر الحدثان من حيث التغطية الإعلامية إلى مستوى “صحافة النقل” أو صحافة البلاغات. فوزارتا التربية والشؤون الدينية تشرفان على التنظيم وتتحكّمان في سيولة المعلومة، أمّا وسائل الإعلام فقد غدت في الأغلب الأعمّ بمنزلة رجع الصدى. إنّه “رجوع إلى الوراء” في أبهى تجلّياته، إنّه تعبير صادق عن وضع الإعلام في زمن ما بعد حدث 25 جويلية 2021، زمن لا مكان فيه للوساطة إلّا اذا كانت انخراطا في حرب التحرير، أي أن يكون الخط التحريري معبّرا عن هذا الخيار الحربي.
تغطية حج التونسيين أم أنشطة الوزير؟
يمكن للمتابع أن يتقصّى أخبار الحجيج التونسيين من الصفحة الرسمية لوزارة الشؤون الدينية على الفيسبوك. تلك الصفحة التي تحوّلت السنة الماضية إلى أشبه ما يكون بألبوم صور مفتوح لوزير الشؤون الدينية السابق والمُقال إبراهيم الشايبي، أمّا في هذا الموسم فقد تقلّصت الصور اعتبارا بحصاد السنة الماضية، لكن تمّت المحافظة على “الخط التحريري” نفسه.
تتمحور التغطية حول الوزير أحمد البوهالي وزياراته بين النزل والخيام ولقاءاته بمكتب البعثة فضلا عن الأنشطة الرسمية. ومن بوّابة الوزير وتصريحاته وسعيه للاطمئنان وحثّه لتقديم أجود الخدمات وتعليماته بتجويدها وحرصه على المتابعة، يتلقّى متابع الاتّصال الحكومي شعور الحجيج بالسعادة ورضاهم عن الخدمات وتفهّمهم لتقلّص عدد المرافقين “لأسباب خارجة عن النطاق”.
قد يكون كلّ ما قيل وما قد يقال صحيحا وصادقا ومطابقا للواقع، لكن عندما نرى تغطية الصفحة ذاتها لموسم حج السنة الفارطة وما كُشِف بعد ذلك من إخلالات وما وقف عليه التونسيون من هنات وثغرات في خطاب الوزير السابق خاصة في ما تعلّق بالوفيات واضطرار السلط إلى تعديل الخطاب من خلال “لمسات اتصالية” من وزارة الشؤون الخارجية ووزارة الصحة فضلا عن إقالة المسؤول الأوّل، فإنّه من الضروري وضع كلّ ما نتابعه بين ظفرين تعليقا للحكم، وذلك هو الحدّ الأدنى.
ولعلّ ما يؤكّد هذا الرأي “القرار الاتّصالي” المتمثل في حجب إمكانية التعليق في الصفحة الرسمية للوزارة. وهذا الأمر قاسم مشترك بين جلّ المؤسسات الرسمية، أي أنّه يرتقي إلى أحد مقوّمات الإستراتيجية الاتّصالية للحكومة. وكما ذكرنا في أكثر من مناسبة، فإنّ عدم الإعلان عن الإستراتيجية أو غيابها لا يمنعنا من استكشافها من خلال آثار الفعل القطاعي أو العام.
وزارة التربية.. كلّ شيء على أحسن ما يرام!
ولا تختلف وزارة التربية عن وزارة الشؤون الدينية في تتبّع خطوات هذه الإستراتيجية وتنفيذها. فأخبار البكالوريا على الصفحة الرسمية هي أخبار تنقّلات الوزير من ولاية إلى أخرى متتبّعا ما يجري في مراكز الامتحان والتجميع والإصلاح. وفي كلّ مرّة يكون الثناء والاستحسان سيّدَيْ التغطية.
وانخراطا منها في “الخط التحريري” للاتّصال الحكومي أغلقت الوزارة التعليق فحرمت من يهمّهم الأمر من إبداء ملاحظاتهم، والحال أنّ المربّين والأولياء والتلاميذ وعموم المتدخّلين بشكل مباشر أو غير مباشر كانت لديهم منصّة لقدح الخبر بالخبر المضاد أو الموضّح. أمّا الآن فلا عزاء لهم إلّا متابعة التنقّلات والمضامين المردّدة بأنّ كلّ شيء على أحسن ما يرام، وذلك ما نرجوه فعلا، شرط أن يكون في سياق انفتاحي.
بالإمكان الاعتراض بالقول، إنّه سواء بالنسبة إلى وزارة الشؤون الدينية أو وزارة التربية ينبغي ألّا نطلب من الاتّصال الحكومي القيام بدور المؤسسات الإعلامية، فالوزارتان تنشران الأخبار الرسمية وعلى الإعلام أن يقوم بأدواره ووظائفه في التناول من زوايا مختلفة وإبداء الرأي وصولا إلى الاستقصاء.
والردّ يتفرّع إلى أنّ واجبات الوزارة لا تقتصر على تتبّع خطوات المسؤول الأوّل، وأنّ تلك الأدوار تتطلّب مناخا يؤمن بالتعدّد ويُيَسِّر النفاذ إلى المعلومة ولا يدعو المؤسسات الإعلامية إلى أن يكون خطها التحريري منخرطا في الخط التحريري لمعركة التحرير.
والأهمّ من كلّ ذلك هو أنّ من شروط قيام الإعلامي بمهامه تعاون المؤسسة أو الوزارة ذاتها، وهذا التعاون لا يقتصر على تصريحات تكرّر مضامين البلاغات وتوجّه الخطاب إلى ما تريد. وعلى سبيل الذكر لا الحصر غيّبت وزارة التربية هذه السنة الإحصائيات الخاصة بالغش ومحاولاته في البكالوريا خلافا للسنوات الماضية. فكيف يمكن لصحفي أن ينشر معطيات عن هذا الموضوع في ظل صعوبة النفاذ إلى المعلومة التي لا تريد السلط نشرها في هذا التوقيت أو ذاك، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ سيف المرسوم 54 مسلّط على الرقاب؟
مقوّمات الإستراتيجية الاتّصالية لحكومة سعيّد
لا ينفصل “الخط التحريري” لصفحتيْ وزارتيْ الشؤون الدينية والتربية عن الإستراتيجية الاتصالية لرئاسة الجمهورية باعتبار أنّ رئيس الجمهورية هو واضع السياسات العامة للدولة بمنطوق الدستور. ويمكن حصر مقوّمات هذه الإستراتيجية في خمس نقاط:
-أوّلا: إستراتيجية الصمت الإستراتيجي،كما بيّنا في مقال سابق حول حادث المزونة. فكثيرا ما تلتزم السلطات الصمت أمام الأحداث للوقوف على المآلات ثم التحرّك بعضّ النظر عن النجاعة.
-ثانيا: تقديم مبدإ واجب التحفّظ على مبدإ النفاذ إلى المعلومة وقانونه.
-ثالثا: انخراط الخط التحريري للمؤسسات الإعلامية العمومية في الخط التحريري للسلطة القائمة، وذلك بالرجوع عمليا وواقعيّا إلى مقولة الإعلام الحكومي عوضا عن العمومي.
-رابعا: إبراز تأمين السير العادي لأيّ مناسبة أو حدث باعتباره إنجازا.
-خامسا: ضمان عدم حدوث أيّ “تشويش” بمعناه الاتّصالي عن السردية الرسمية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار عناصر هذه الإستراتيجية، فإنّه لا يسعنا إلّا تهنئة وزارتيْ الشؤون الدينية والتربية على النجاح في تنفيذها وقدرتهما على الرجوع بنا إلى الوراء، ذلك الوراء الذي تتوارى فيه مقولات التعدّد والانفتاح والنفاذ إلى المعلومة واستقلالية الخط التحريري لمؤسسات الإعلام العمومي.
أضف تعليقا