ثقافة

بول غوغان… رسّام الشقاء والترحال الذي وهب حياته لفنه


يحتفي العالم اليوم 8 ماي/ أيار بالذكرى الـ119 لرحيل الرسّام الفرنسي بول غوغان الذي توفّي في مثل هذا اليوم من العام 1903 بجزيرة هيفا أوآ ثاني أكبر جزر ماركيساس في البولينسيا الفرنسية عن عمر ناهز الـ54 عاما.

وغوغان ولد في 7 جوان/ يونيو من العام 1848 بالعاصمة الفرنسية باريس من أب فرنسي وأم من البيرو، ثم رحل والداه إلى البيرو بسبب المناخ السياسي في تلك الفترة، قبل أن يتوفى هناك، وهو في سن  الثالثة، فعاش مع والدته وأخته لمدة أربع سنوات في بيت خاله ثم عاد إلى فرنسا في عمر السبع سنوات، وهذه الفترة التي عاشها في البيرو أثرت في فنه فيما بعد.

في سن السابعة عاش مع جده في أورلينس وتعلّم الفرنسية، هرب من المدرسة في سن السابعة عشرة وجاب البحار كملاح لمدة ست سنوات، فجعلت الحياة الخشنة من الصبي الضعيف شخصا قويا ومنحته الحلم الذي غيّر حياته بعد أن انطبعت في ذهنه صور الأراضي الجميلة التي زارها. وبعد أن عاد إلى باريس في سن الثالثة والعشرين من العمر عمل سمسارا في سوق الأوراق المالية وتزوّج من هيث كول ابنة موظف حكومي دانماركي وأنجب خمسة أطفال.

بداية مسيرته الفنية

كان غوغان مهتما بالرسم منذ طفولته وفي هذه الفترة من حياته بدأ يرسم في أوقات الفراغ، وانطلق  بزيارة المعارض باستمرار وكوّن صداقة مع الرسام كاميل بيسارو الذي عرّفه على عدد من الرسامين، ومع تقدّمه في الرسم استأجر غوغان مرسما، وبدأ يعرض لوحاته الانطباعية في المعارض منذ العام 1881،  وقضى صيفين متتاليين يرسم مع بيسارو وأحيانا مع بول سيزان.

فاجأ غوغان عائلته في سن الخامسة والثلاثين من عمره بترك عمله والتفرّغ للرسم، وخلال عام واحد أصبح مفلسا تماما، فباع منزل الأسرة وعاد مع زوجته إلى الدنمارك، علّهما يجدان ما يكفي لإطعام عائلتهما.

كانت زوجته ترى مغامرته غير مبرّرة وأنانية منه، فانفصلت عنه، ليعود بول وحيدا إلى باريس بعد أن فقد اثنين من أبنائه.

وبسبب غلاء المعيشة والضغوط اضطر غوغان سنة 1886 إلى الانتقال إلى كولوني، ثم بعد ذلك بسنة قرّر الذهاب إلى باناما في أمريكا الجنوبية واشتغل كعامل في إحدى القطاعات، ثم انتقل إلى مارتينيك وقضىّ بعض الوقت هناك، ثم اضطر إلى العودة إلى كولوني مفلسا مريضا.

النقلة الفنية

في العام 1888 قرّر غوغان الذهاب إلى آرلي بجنوب فرنسا وهو ما يزال مفلسا ليلتقي بالرسام الهولندي فينسنت فان غوخ، وقام بتمويلهما شقيق فان غوخ، ثيو تاجر اللوحات، وكان حينها غوغان يطهو الطعام ويساعد فان غوخ في رسوماته، لكن أمزجة الصديقين وآراءهما كانت متعارضة بالرغم من أن كلا منهما تعلّم من الآخر وأنتجا في تلك الفترة أعظم لوحاتهما.

أُصيب غوغان بنوبات الكآبة وحاول الانتحار مرة واحدة، وبعد ثمانية أسابيع اختار الرحيل مرة أخرى.

ويقول النقاد إن الرسّام الفرنسي انطلق من بين أحضان المدرسة الانطباعية، إلاّ أنه أبدى في ما بعد ميولات أخرى، فكان من المؤسّسين لحركات فنية لاحقة. كان يريد أن يستكشف المنابع الأولى للإبداع، فأمضى فترة من الزمن في بريطانيا، تحديدا منذ العام 1886 قضاها رفقة مجموعة من أصدقائه، أبرزهم إميل برنارد وآخرون،  وأطلقوا على المجموعة اسم “مدرسة جسر أفين”، ونشأت معها الحركة التركيبية.

التحق بعدها بصديقه الرسّام فان غوخ في مدينة آرل بالجنوب الفرنسي، قبل أن يستقرّ في العام 1891 في بولينيسيا بتاهيتي ويتوفّى فيها، وهو الذي كان له بالغ الأثر على أتباع المدرسة الوحوشية، فقد كان غوغان الممهّد الأول للوحشيين، فيما كان الفرنسي هنري ماتيس (1869-1954) زعيم الوحشيين ورائدهم.

صاحب أغلى لوحة

في العام 2015 بات بول غوغان صاحب أغلى لوحة في العالم والمعنونة بـ”متى تتزوجين؟” التي رسمها عام 1892، وتظهر فيها فتاتان من جزر تاهيتي، وقد باع اللوحة مالكها رودولف ستايشن لمتحف قطر الوطني مقابل 300 مليون دولار لتكسر الرقم القياسي الذي بيعت به لوحة “لاعبة الكوتشينة” للرسام الفرنسي بول سيزان أب الفن الحديث (1839-1906).

والأكيد، أنه لو ظل غوغان على قيد الحياة، وشاهد إحدى لوحاته تباع بهذا الرقم لأصيب بالجنون، وهو الذي عاش رحلة عمره ما بين اليتم والشقاء والترحال والإفلاس والفشل في عدد من الوظائف، فضلا عن فشله الأسري، وتخلي زوجته عنه، وموت إحدى بناته وهروب ابنه، وعدم قدرته على توفير قوت يومه، ثم فشله في بيع لوحة واحدة عندما أقيم معرض بباريس وشارك فيه، الأمر الذي أصابه بالإحباط وسط عالم لم يقدّر موهبته حقّ قدرها عصرئذ.