عبدالسلام الزبيدي
إنّها حالة ما بين الاندهاش والإصابة بالدوار التي اعترتني خلال اطلاعي على البلاغات الصادرة عن رئاسة الجمهورية مساء الاثنين 2 سبتمبر 2024. لم يكن الاندهاش/الدوار بسبب تعليقٍ منتظرٍ أو مفترض على ما أتاه رئيس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات فاروق بوعسكر من قول ثقيل، ردّ بمقتضاه أحكاما قضائية تنصّ على إعادة كلّ من عبداللطيف المكي والمنذر الزنايدي وعماد الدائمي إلى مضمار المنافسة على مقعد الرئاسة. ولم تكن تلك الوضعية وليدة صدور قرارات بالتعيين أو الإقالة لا نعلم أسبابها وحيثيّاتها وتعليلاتها.
إنّنا اليوم على بُعد خمس سنوات إلاّ شهر واحد من تسلّم قيس سعيّد مهام رئاسة الجمهورية التونسية. ومضت أكثر من ثلاث سنوات منذ أن أصبح صاحب السلطات التنفيذية والتشريعية في آن واحد، يُعيّن الحكومات والولاة والمسؤولين الأُوَل في المنشآت والمؤسسات العمومية والقوات الأمنية والعسكرية دون حاجة إلى استشارة أو تقييم أو مساءلة. ونحن اليوم على مسافة شهر وأربعة أيام من موعد الانتخابات، كان من المفترض أن تكون البلاغات حول جرد المنجزات وليس حول الدعوة إلى البحث عن الحلول.
قراءة في البلاغات من حيث الشكل
فركْتُ عينيّ الاثنتين لأتمعّن في البلاغات الثلاثة، فوقفت على أنّ رئيس السلطة التنفيذية يدعو الوزراء إلى إيجاد حلول لمسائل وقضايا من المفترض أنّه قد حلّها وتجاوزها إلى ما هو أهم، خلال الزمن الذي أسند فيه إلى نفسه صلاحيات التنفيذ والتشريع والتعيين بهدف إعادة دواليب الدولة إلى سيرها الطبيعي، كما ورد في الفصل 80 من دستور 2014 المستند إليه والمعتمد عليه للعبور من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسوي في نسخته ذات البناء القاعدي.
قبل الخوض في المضمون، لاحظنا من حيث الشكل أنّ المتحدّث واحد بالرغم من أنّ اللقاءات تضمُّ طرفين في كلّ مرّة، أي رئيس الجمهورية ووزير التربية في أحد اللقاءات، في حين جاء وزير الفلاحة رفقة كاتب الدولة المكلّف بالمياه، وقدِم وزير التكوين المهني والتشغيل صحبة كاتبة الدولة للشركات الأهلية. قد يعتبر البعض أنّ الأمر عاديٌّ لأكثر من سبب. الأوّل أنّ رئيس الجمهورية هو من يضبط السياسات، وعليه فإنّه من الطبيعي أن يكون البلاغ حوصلة “لما أسداه من تعليمات”. والثاني أنّ الوزراء، حديثو التعيين ولم يتعرّفوا بعد على أروقة وزاراتهم ومؤسساتها، ممّا يعني أنّه ليس لديهم ما يقولون.
فأمّا النقطة الأولى فهي لا تعكس القيمة الحقيقية للوزير بما هو مسؤول أوّل عن قطاع وله رأي وخبرة في المجال أكبر من خبرة الرئيس. ولولا تلك الخبرة لما تمّ تعيينه. ولذلك من المفترض أن يكون له موقع في البلاغ حتى لا يسهم الاتّصال الرسمي ومن ورائه الإعلام الناسخ والناقل الببغائي في صنع صورة الزعيم الأوحد، ونحن في زمن غير تلك الأزمان. كما تتهاوى النقطة الثانية، عندما نقارن صياغة البلاغات الثلاثة الخاصة باستقبال الوزراء الجدد مع بلاغات من استقبلهم عشرات المرّات، ولنا في لقاءاته مع وزراء العدل والداخلية والمالية أدلة كاشفة وواضحة.
وتتمثّل الملاحظة الشكلية الثانية في الأسلوب المدرسي لصياغة البلاغات، حتى لا نستعمل عبارات أخرى. فمطلع كلّ فقرة في البلاغات الثلاثة تبدأ بأفعال الأمر واليقين وكلّها على لسانه. بدءًا بأكّد وشدّد وجدّد وتناول وصولا إلى دعا وأسدى. إنّ العلاقة في اتّجاه واحد من رئيس إلى مرؤوس. وإذا كان الأمر معقولا بحكم طبيعة الدستور، فإنّ المنطق ذاته يجعل من الرئيس مسؤولا عن النتائج باعتباره واضع السياسات والشخص الذي اختار رئيس الحكومة وفريقه. لكن المفارقة في دستور 2022 تتمثّل في أنّه لا توجد أيّة آلية لتقييم الرئيس أو مساءلته بالرغم من أنّه الشخصية الأساسية في صنع السياسات. وللتذكير، فإنّ هذه المسألة تعتبر نقدا للنظام الرئاسوي وللصلاحيات الكبرى للرئيس دون ترتيب أيّ مسؤولية، وذلك بغض النظر عن اسم ساكن قرطاج.
وتتمحور الملاحظة الشكلية الثالثة في طول عديد الجمل. من ذلك أنّ بلاغ استقبال وزير التكوين المهني كان عبارة عن فقرة واحدة تتكون من ثلاث جمل طويلة جدا، إحداها تحتوي 56 كلمة بالتمام والكمال، تصعب قراءتها دون توقّف. وتحيلنا هذه الملاحظة على ما نستشعره من أنّ البلاغات هي عبارة عن خطاب شفهي تمّ تدوينه.
ومعلوم أنّ بين الشفهي وأصناف الكتابة (ومنها البلاغات) مسافة لا بد من احترامها وقواعد من الضروري أخذها بعين الاعتبار. لكن ما يجمع بين هذه البلاغات هو أنّها نسخ حرفي لما اعتاد رئيس الدولة قيس سعيد قوله، والفيديوهات الفيسبوكية المنشورة على صفحة رئاسة الجمهورية شاهدة.
لقد مكّنتنا الملاحظات الشكلية سالفة الذكر من أن نتوقّع من يقف وراء هذه البلاغات سواء في الصياغة أو المصادقة. فبين الشكل والمضمون وشائج قربى، أدناها أنّ الأوّل يقودنا إلى الثاني ويدّلنا عليه.
خطاب سلطة أم معارضة؟
لننتقل من الشكل الدال على المضمون إلى المضمون ذاته، ضاربين مثلا واحدا من كلّ بلاغ. فعند استقبال وزير الفلاحة عزالدين بن الشيخ وكاتب الدولة المكلّف بالمياه حمادي الحبيب، اعتبر سعيّد أنّ ما يحدث في تونس في مجال المياه غير طبيعي، نافيا أن يكون سبب الانقطاعات انحباس الأمطار والجفاف. والسبب في نظر الرئيس هو عدم تعهّد شبكات التوزيع لسنوات طويلة إلى جانب أعمال إجرامية، ليصل إلى استنتاج مفاده أنّه ليس “من قبيل الصدفة على الإطلاق أن يكون الوضع وصل إلى ما وصل إليه قبل أسابيع قليلة من الموعد المحدد للانتخابات الرئاسية”.
تتمثل عناصر خطاب سعيّد حول قطاع المياه في: نفيْ الاعتراف بانعكاس ظاهرة انحباس الأمطار على الوضع المائي، تحميل من سبقه في الحكم مسؤولية تدهور البنية الأساسية، ربط انقطاعات الماء بالعمل على تأجيج الأوضاع قبيل الانتخابات.
يكفي أن نستذكر تصريحات وزير الفلاحة السابق عبدالمنعم بالعاتي حول شح الأمطار وتقلص مخزون السدود وقراراته التي صادقت عليها الحكومة التي يرأسها على وجه الحقيقة قيس سعيد حول تقسيط المياه والخطة الاستراتيجية لتثمين المخزون وإقامة السدود حتّى نقف على التباين الواضح بين السرديتين. ويكفي أن نستحضر الأرقام التي يصدرها دوريا المرصد الوطني للفلاحة حول مخزون السدود حتى ندرك أصل المشكل. ويكفي أن نستعيد ما حصل خلال السنوات الماضية من نقص في تزويد المواطنين والفلاحين بالماء حتى نُدرك أنّ ما جاء في البلاغ إنكارٌ للواقع، واتهام للخصوم زمن الفترة الانتخابية. إنّه خطاب من المفترض أن تتبنّاه المعارضة وليس من بيده السلطة بكلّ أصنافها.
عند استقبال وزير التربية الجديد نورالدين النوري، “جدّد رئيس الجمهورية تأكيد ضرورة إيجاد حل نهائي وعادل لملف المعلمين والأساتذة النواب بما يحفظ حقوق جميع الأطراف”. ذاك ما جاء في البلاغ حرفيا. وعبارة جدّد تحيل على أنه طلب سابقا إيجاد حل لهذه المعضلة. فقد طلب فعلا من الوزراء السابقين فتحي السلاوتي ومحمد علي البوغديري وسلوى العباسي ما طلبه من النوري. وكان ما كان من احتفالات في عهد العباسي بتسوية الوضعيات، لكن ها أنّ الوضع لم يتغيّر.
وأنا مضطر إلى التذكير بأنّ رئيس الجمهورية حسب الدستور هو من يضع السياسات، والوزراء ليسوا أكثر من مساعدين، ممّا يعني أنه من المفترص أن يسدي سعيد تعليماته لوزيرة المالية بتخصيص ميزانية للأساتذة والمعلمين النواب لانتدابهم نهائيا وانتهى الأمر، أمّا أن تطالب أربعة وزراء بما لا يمكن تحقيقه في ظل الصعوبات المالية للدولة فذاك يفتح بوابة التساؤلات. وهنا نجد أنفسنا مرّة أخرى أمام خطاب هو أقرب إلى المعارضة والحملات الانتخابية منه إلى خطاب رئيس لم يتبّق من عهدته إلاّ شهر.