ثقافة

بعد إعادة ترميمه.. معلم “تُربة الباي” يستعدّ لفتح أبوابه للعموم

دشّنت رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن رمضان، أمس الجمعة 24 فيفري، المعلم التاريخي والأثري “تربة الباي” بمدينة تونس العتيقة.

وأكّدت رئيسة الحكومة حسن استغلال هذا المعلم وإدراجه ضمن المسلك السياحي لمدينة تونس العتيقة، حتى يكون وجهة ثقافية وسياحية لضيوف تونس. وذلك بحضور وزيرة الشؤون الثقافية حياة قطاط القرمازي، ووالي تونس كمال الفقي، وشيخة مدينة تونس سعاد عبدالرحيم، وعدد من المسؤولين من وكالة إحياء التراث والمعهد الوطني للتراث.

وتمّ ترميم هذا المعلم من قبل فريق مختصّ من المعهد الوطني للتّراث وتهيئته وتثمينه من قبل فريق آخر متكون من معماري وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، بكلفة جملية تقدر بحوالي 120 ألف دينار (حوالي 36.5 ألف دولار)، وتتمثل الأشغال في إنجاز إضاءة فنية، وإبراز الخصائص المعمارية للتربة ورموزها، وتركيز لوحات تفسر مكونات المعلم، وتقدم تاريخ العائلة الحسينية، فضلا عن تهيئة فضاء استقبال عصري يحتوي على معرض للمنتوجات الثقافية المستوحاة من التراث.

وتأتي أشغال التهيئة المتحفيّة من أجل فتحه للعموم، لزيارة هذا المعلم الفريد من نوعه، إذ يحتوي على لوحات تفسيريّة وكتب وموسوعات تروي الجانب المعماريّ للمعلم وخصوصياته، كما يُعرّف تاريخ الدولة الحسينية في تونس والحقبة التاريخية من 1705 إلى حدود إعلان الجمهورية التونسية في 25 جويلية 1957.

ويُعتبر معلم “تربة الباي” من أهم المقامات التاريخية بمدينة تونس العتيقة، وهو تراث إنساني معماري عربي وإسلامي فريد من نوعه يحافظ على الذاكرة الشعبية والوطنية لتونس.

معلم حسيني

معلم “تربة الباي” هو ضريح ملكيّ للبايات الحسينيين، بمدينة تونس العتيقة، بُني في عهد علي باي الثاني (1759 إلى 1782) رابع بايات تونس، وتمّ ترميمه قبل هذا العام بين سنتيْ 1964 و1968.

ويقع المعلم في نهج تربة الباي، وهو أحد أهم أنهج مدينة تونس العتيقة، ويفضي إلى شارع باب جديد، وتوجد به تربة البايات الحسينيين. ومن أهم معالمه أيضا الدار التي ولد فيها العلامة ابن خلدون، وكذلك مسجد القبة ويعود إلى القرن الخامس هـ/الحادي عشر م، درس فيه ابن خلدون خلال صباه.

ويلفت شكل معلم تربة الباي الخارجي النظر من حيث أنّ واجهته كُسيت بحجارة رملية صفراء، فاقعة اللون، محاطة بأطر من حجارة الكذال ذات نقوش هندسيّة ونباتيّة بارزة تعلوها قباب متعدّدة الأشكال والألوان.

هذا الشكل يميّز المعلم عن سائر المباني بمدينة تونس العتيقة، عادة تطلى الجدران بطبقة كثيفة من الكلس (الجير) الناصع البياض. وقد زادت النوافذ الكبيرة المطلة على الشارع في غرابة هذا المعلم.

وعادة لا تفتح مثل تلك النوافذ إلاّ في الطابق العلوي من البناء، كما يبرز تفرّد هذه البناية من خلال استقلاليتها التامة عن بقية المباني على غير المألوف، وفي ذلك دليل على الأهمية المعمارية التي يكتسيها هذا المعلم.

ويلاحظ الداخل إلى فناء تربة الباي (وسط الدار) وجود عدة قبور رخاميّة كتبت عليها ألقاب مثل “كاهية” و”بيرم” و”المملوك” وغيرها..

ومن المعلوم أن الدفن بتربة الباي كان يخضع لتراتيب معينة، إذ يجد الزائر غرفة خاصة بالملوك من هذه العائلة وأخرى خاصة بالأميرات وثالثة بالمرموقين من الأمراء وبعض أعيان الوزراء. أما مماليك العائلة ذوو الحظوة فعادة ما نجدهم مدفونين بفناءات التربة.

وتتميّز غرفة الباشاوات بشكلها الخاص الذي يشبه بيت الصلاة بجامع محمد باي المرادي بالعاصمة أو بجامع السلطان أحمد (الجامع الأزرق) بإسطنبول. وهي أشبه ما يكون بالجامع العتيق بمدينة الكاف المدعو بالبازليك، وهو اليوم مقرّ المتحف التاريخي.

وفي هذه الغرفة 4 دعائم كبيرة ترفع خمس قباب أوسطها أكبرها، وقد كسيت بالجصّ المخرّم (النقش حديدة) بديع الصنع في أشكال مزهريات تتفرّع منها أغصان وأزهار إلى ما لا نهاية.

أما الجدران والدعائم فقد كُسيت بالرخام هو كذلك في أشكال المزهريات متعدّدة ألوانه على النمط الإيطالي.

واختصّت هذه الغرفة بدفن الأمراء الحسينيين الذين تربّعوا على عرش البلاد التونسية، ولا يشاركهم في هذا الامتياز غير الشريف سيدي حسن المتوفى سنة 1777 معتقد آل البيت الحسيني، ويقع ضريحه قبالة الداخل إلى الغرفة قرب النافذة المطلة على نهج سيدي الصوردو.

ويختلف شكل قبر الشريف عن القبور المحيطة به، فهو عبارة عن تابوت خشبي مرتفع كتب عليه: “باسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد. هذا قبر الولي لله السيد الشريف حسن توفي في شهر ذي الحجة سنة 1191هـ/1777م”.

وفي هذه الغرفة أيضا قبور كل من الأمراء المأمون باي المتوفى سنة 1785 وإسماعيل باي المتوفى سنة 1815 والسعيد باي المتوفى سنة 1885.

وقبور هؤلاء لا تختلف في شيء عن قبور الباشاوات وهي عبارة عن توابيت رخامية مختلفة أحجامها وطرق زخرفتها باختلاف الفترة التاريخية، إذ نجد على بعضها نقوشا هندسية وعلى الأخرى نقوشا نباتية.

ويلاحظ الزائر للتربة على قبر المولى علي باشا باي الثالث نقشا مماثلا لنيشان الدم الحسيني في شكله، كما يمكن أن نلاحظ اختلافا في شواهد القبور، إذ أن النصوص الجنائزيّة تختلف من شعرية كتلك الموجودة على قبر الأمير إسماعيل باي، أو نثريّة بسيطة كتلك المنقوشة على قبر الباشا محمد الحبيب باي وقد جاء فيها: “الحمد لله وحده. هذا ضريح المرحوم سيدي محمد الحبيب باشا باي، توفي يوم الاثنين من شهر رمضان المعظم سنة 1347هـ/ 1929م”، مع العلم أن آخر نص شعري نقش على مشهد قبر ملكي هو الذي يعلو قبر الملك علي باشا باي الثالث.

وما يلاحظ أنّ شواهد القبور يختلف بعضها عن بعض، إذ أن جزءا من القبور ترتفع فوقه صورة العمامة والجزء الآخر يحمل صورة الطربوش أو بالأحرى الشاشيّة التونسيّة المعروفة سابقا باسم الكاليوش، وسبب هذا الاختلاف هو تاريخ وفاة الراقد في ذلك الرمس.

وكان السلطان العثماني محمود خان الثاني قد ارتدى سنة 1830 الزيّ الأوروبي المسمّى بـ”الرودنڨوت” وأمر حكام الأقاليم المتميّزة والتابعة له بالولاء لتقليده. وكان الجالس على العرش الحسيني عهدئذ حسين باي الثاني فلبس الثوب الجديد عن مضض.

وقد رأى السلطان محمود في جملة هذا التغيّر أن يتخلّى عن العمامة وأن يغطي رأسه بالشاشية التونسية الحمراء الجميلة. وكان قبر حسين باي الثاني بن محمود باي، المتوفى سنة 1835، أول القبور التي حملت هذه العلامة. 

وتوجد ثلاثة قبور صغيرة في غرفة الباشاوات لعلها من باب التماس الرحمة من لدن الواحد القهار، لأن الصغار “عصافير جنّة”. ولا يُعرف نسبهم لعدم وجود كتابة على شواهد قبورهم.

قاعة أضرحة الأميرات الحسينيات

القاعة مخصّصة لدفن النساء من أميرات البيت الحسيني، واقتضت العادة أن يكون لكل واحد من الجنسين مكان خاص للدفن. والقبور المنتشرة في هذه الغرفة رخامية ترتفع عن الأرض بنحو سبعين سنتمترا في شكل توابيت زخرف بعضها بأشكال نباتية. ويبدو أن السبب في عدم وضع نص على بعض تلك القبور هو ما كانت تقتضيه التقاليد التونسية القديمة من حجب اسم المرأة لاعتباره عورة. والمشهور أن والدة المشير الأول أحمد باشا باي دفنت في هذه الغرفة.

والغرفة تقع قبالة غرفة الباشاوات وهي خاصة بالحريم الملكي وواسعة، فيها غرفتان تعلو كل واحدة منهما قبة خاصة منقوشة. أما الجدران فقد كسيت بالخزف الملون وتوجد بها عدّة قطع تعرف باسم “المحراب”، أما القبور فهي في شكل القبور الموجودة في الغرف السابقة.

وما يُلفت النظر في هذه الغرفة وجود حاجز خشبي مشبك (برمقلي) تعلوه صورة الخبشات الحسينية وهي الطغراء علامة الملك. وداخل هذا الحاجز يوجد عدد من القبور النسائيّة وقبر رجالي واحد يحمل مشهده صورة الشاشية نقشت عليها هي أيضا الطغراء، وهو ما يدلّ على أن صاحب ذلك القبر هو أحد الملوك.

أما الفناء الثاني، فقد فرشت أرضيته بالرخام الأبيض الناصع وكسيت جدرانه بالجليز وتتوسّطه شجرة ليمون وفي أحد أركانه قبران رخاميان.

أما المقابلة منهما فمربعة الشكل تعلوها قبة كبيرة مكسوة الجدران بالجليز وهي خاصة بالنساء وتستعمل أيضا مستودعا للنعوش. 

وأما الغرفة الأخرى فهي مستطيلة غير متساوية الأضلاع بها قبور رجالية، وهي خاصة بدفن المرموقين من أمراء البيت الحسيني والقبور لا تختلف عن تلك الموجودة في غرفة الباشاوات.

نساء شهيرات مدفونات في التربة

دفنت في تربة الباي عدّة أميرات خليلات الأمراء ذوات الصيت من أشهرهنّ على سبيل الذكر لا الحصر: الأميرة آمنة وتدعى أيضا منانة وهي الملقبة بأّمّ الأمراء، وهذه السيدة جليلة القدر حفلت الكتب بمناقبها، فأبوها علي باشا باي الثاني وجدها حسين باي بن علي مؤسّس البيت وحموها عمها محمد الرشيد باشا باي وزوجها ابن عمها محمود باشا باي وأخواها حمودة باشا وعثمان باشا وابناها حسين باشا الثاني ومصطفى باشا وكلهم ممّن تولوا العرش.

وأيضا الأميرة فاطمة عثمانة وهي من أحفاد عثمان داي أول من استقلّ بملك تونس والأميرة عزيزة عثمانة، وقد تزوجها حسين باشا باي الثاني إثر وفاة زوجها الأول محمد الڨايجي لكمالها ورجاحة عقلها، وقد كانت له نعم المعين أيام ملكه إلى أن توفيّت في 23 مارس من عام 1827.

والأميرة كلثوم، هي أيضا إحدى الشهيرات المدفونات في التربة، وهي كلثوم ابنة مصطفى باشا باي وشقيقة المشير الأول أحمد باشا باي الذي زوجها من رفيق صباه ووزيره مصطفى خزنه دار.

وقد كان لها دور فعال في حياة زوجها السياسية وكانت الحامية الوحيدة له عند نكبته سنة 1873، فوقفت إلى جانبه متحدّية بذلك المشير الصادق باي ووزيره الأكبر صهرها السابق الجنرال خير الدين.

أشهر الأعيان المدفونين في التربة

إلى جانب قبور الملوك الحسينيين والأمراء والأميرات المدفونين في تربة الباي توجد قبور جمع من الأعيان، خاصة منهم الوزراء الذين هم في الأصل مماليك مثل حسين كاهية المتوفى سنة 1277هـ/1860م، أو مصطفى خزندار المتوفى في 24 جويلية 1878، ومصطفى صاحب الطابع أول رئيس للمجلس الكبير والمتوفى سنة 1861 وغيرهم.

والسبب في دفن هؤلاء الوزراء في تربة الباي هو أنهم غرباء عن البلاد ليست لهم عائلات، فدفنوا مع مخدوميهم، خاصة أن أغلبهم متصاهرون مع العائلة المالكة.

من هم الحسينيون؟

الحسينيون، هم سلالة من البايات حكمت إيالة تونس سنوات 1705-1957. وتنحدر أصولها من كريت المقر: تونس (قصر باردو). كان مؤسّس السلالة الحسين بن علي (1705– 1735) قائدا على فرقة الخيالة في الجيش العثماني

بعد اضطراب الأوضاع السياسية في تونس، استولى على الحكم على حساب المراديين، ثم أخذ يستقل بالأمر حتى أصبحت دولته كيانا قائما بذاته (على حساب الأتراك العثمانيين).

وأدّت الحروب العائلية التي عرفتها دولة الحسينيين في تونس في عهد ابن أخ المؤسّس علي باشا (1735-1756) إلى غزو البلاد سنة 1756، ثم قيام وصاية على تونس من قبل حكام الجزائر (دايات الجزائر).

استعادت الدولة عافيتها أثناء عهد علي باي بن حسين (1759-1782) ثم حمودة باشا بن علي (1782-1814)، وسمّيت هذه الفترة بالفترة الذهبية، إذ اكتمل استقلال تونس سنة 1807 وأصبحت دولة كاملة السيادة.

بدأت في الفترة ذاتها عملية إحياء عروبة البلاد، من خلال إحياء الثقافة العربية والهوية التونسية، كما تمّ إدخال نظام تعليمي أشرفت عليه الدولة.

وبعد أن قامت فرنسا باحتلال الجزائر سنة 1830، أصبحت تونس تحت رحمة القوى الأوروبية، كما أصبح اقتصادها مرتبطا بها أكثر.

وفي الأثناء حاول أحمد باي (1837-1855) ثم محمد الصادق بن حسين (1859-1882) القيام بإصلاحات على الطريقة الأوروبية.

وابتداء من سنة 1869 أصبحت الدول الأوروبية تتدخل مباشرة في تدبير الشؤون المالية للدولة (الخزينة) كما تم تعطيل الإصلاحات السابقة.

وفي عام 1881 وبموجب معاهدة باردو، أصبحت تونس وفق ما جاء في المعاهدة تحت الحماية الفرنسية، والحال أنها باتت مستعمرة فرنسية، وهنا تأرجحت سياسة البايات بين الإملاءات الفرنسية ورغبتهم في دعم المطلب الشعبي المتمثل في الاستقلال، حينذاك كان الحزب الحر الدستوري يتزعّم القوى الشعبية.

وفي 1943 قام الفرنسيون بخلع منصف باي بن الناصر باي بعد أن أبدى نزعة وطنية. ومع قيام الجمهورية سنة 1957، قام الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة بدوره بخلع آخر البايات الحسينيين الأمين باي بن محمد الحبيب (1943-1957)، منهيا عهدا تولى فيه الحسينيون حكم تونس لما يفوق المائتين وخمسين عاما.

جمع وإعداد: صابر بن عامر