رأي عرب

بشارة.. عندما تحوّل إسرائيل الدفاع عن النفس إلى إبادة بغطاء قانوني وأمريكي و”عربي مُطبِّع”

قدّم الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أمس الثلاثاء 28 نوفمبر 2023، محاضرةً عامة بعنوان “الحرب على غزّة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي”، وتناول خلالها الخلفية السياسية لهجوم 7 أكتوبر 2023، والسلوك العام الإسرائيلي، والمواقف الدولية والعربية تجاه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، مع تحليل مفهوم الإبادة الجماعية في حالة غزّة، ومناقشة استخدام إسرائيل لـ “حق الدفاع عن النفس” في تبرير حجم جرائمها.

المراهنة على انحلال القضية الفلسطينية بدل حلّها

استهلّ بشارة محاضرته، بالإشارة إلى أنّ الهجوم الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في السابع من أكتوبر على معسكرات للجيش الإسرائيلي وبعض المستوطنات في “غلاف غزة”، لم يكن وليد اللحظة، وفق ما نقله موقع المركز، بل نتاج تخطيط وتدريب استمرّا طوال عامين؛ تواصل خلالهما توسّع الاستيطان في المناطق المحتلّة على نحوٍ غير مسبوق، وارتفعت وتيرة الاقتحامات في المسجد الأقصى، وازداد الحديث عن احتمالات توسيع التطبيع العربي – الإسرائيلي.

وهذا السياق هو ما يفسّر صدمة إسرائيل والأطراف الدولية والإقليمية التي راهنت على انحلال القضية الفلسطينية بدلًا من حلّها، من خلال تحقيق اتفاقيات سلام عربية – إسرائيلية منفصلة. إذ إنّ هذه التوقعات قادت إلى نوع من الاسترخاء في إسرائيل إلى درجة رفض التفاوض حتى مع السلطة الفلسطينية، والتحلّل من مسار أوسلو، والاكتفاء بتحسين الظروف الاقتصادية في الضفة الغربية بإتاحة المجال لأعداد أكبر من الفلسطينيين للعمل في إسرائيل.

نشوء مركز جديد للخارطة السياسية الإسرائيلية

رأى بشارة أنّ عملية 7 أكتوبر أثارت غضبًا وصل حدّ فقدان التوازن في المجتمع الإسرائيلي لجمعها بين عنصرين: حجم الضحايا واختراق قواعد عسكرية، وتنفيذ عمليات هجومية واسعة متزامنة في مناطق تقع ضمن حدود الرابع من جوان 1967، كانت بنيتها أقرب إلى الحملات الحربية الهجومية منها إلى العمليات التي قامت بها منظمات فلسطينية حتى ذلك التاريخ.

ولخَّص بشارة السلوك العام الإسرائيلي، وفق موقع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في التلاحم القبَلي بحثًا عن العزاء والأمن لتبديد الخوف، وأوّلًا وقبل كل شيء لاستعادة التوازن وهيبة الردع بتنفيذ الانتقام الثأري من الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، إضافة إلى التعامل مع المواطنين العرب في الداخل كأنّهم أعداء أو أعداء مُحتَملون عليهم الصمت والتزام الحذر.

وأشار بشارة، في هذا السياق، إلى أنّ العملية العسكرية أدّت مباشرةً إلى انغلاق المجتمع الإسرائيلي وشعوره بعزلة إقليمية، وعودة المنظورات العسكرية للتعامل مع الصراع، وعدم تحميل الاحتلال المسؤولية عما جرى، ولا لسياسات إسرائيل، بل إلى إخفاق استخباري وعسكري، مؤكدًا أنّ الانزياح الإسرائيلي نحو العسكرة لا يعني تراجع هيمنة خطاب الصهيونية الدينية في قضية فلسطين، فالذين يتصدّرون السياسة الإسرائيلية في استطلاعات الرأي هم القوميون المتطرفون، ومنهم متدينون مثل نفتالي بينيت، وغير متدينين مثل الجنرالات العلمانيين. والمشترك بينهم هو النزعة الأمنية العسكرية ورفض عناصر الحل العادل لقضية فلسطين.

ويهمّش هذا التحالف الأحزاب الدينية، ويُنشئ مركزًا جديدًا للخارطة السياسية لإسرائيل في المرحلة الراهنة.

أمريكا.. من التورّط في الخطاب الإسرائيلي إلى المراجعة

وانتقل مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة إلى الحديث عن الموقف الأمريكي، موضحًا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية شاركت إسرائيل انصعاقها وغضبها إلى درجة عدم الاكتفاء بتكرار الرواية الإسرائيلية عن أحداث 7 أكتوبر بحذافيرها، بل المشاركة أيضًا بالاستنتاجات بشأن ضرورة التخلّص من حركة حماس، على الرغم من معرفتها، أنّ هذا يعني تدمير قطاع غزة وقتل أعداد يصعب حصرها من المدنيين، وأنّ مثل هذا الأمر قد يُستَغلّ إسرائيليًا لتنفيذ خطط تهجير قديمة. 

ووصل التورط الأمريكي حدّ مشاركة رئيس الولايات المتحدة ووزير خارجيته شخصيًا في اجتماعات “مجلس الحرب” الإسرائيلي التي مهَّدت للحرب البرّية على قطاع غزة.

وكشف بشارة عن أنّ مجريات الحرب بعد الأسابيع الأولى، وتكشُّف عدد من الأكاذيب الإسرائيلية، وتبيّن حجم الكارثة التي تعرّض لها سكان القطاع، وبدء حصول تصدُّعات في جدار الرأي العام الغربي، الذي امتثل في البداية للخطاب الأمريكي، قد يُغيِّر استنتاجات الإدارة الأمريكية.

عندما تشارك الدول المطبّعة الغضب مع إسرائيل

وبخصوص المواقف العربية، رأى بشارة أنّ الدول العربية غير التابعة للمحور الإسرائيلي – العربي الموالي للولايات المتحدة، قد وقفت عاجزةً عن القيام بخطوات عملية بشأن قضية فلسطين، لأنّ بعضها ضعيف ومعزول، وبعضها الآخر تعامل مع قضية فلسطين على نحوٍ أداتي أفقدها مصداقيتها. ومنها دول منشغلةٌ في صراعاتٍ داخلية ارتَكَبَت فيها الأنظمة جرائم تقلِّل من مصداقيتها عند تناول جرائم الاحتلال الإسرائيلي.

 أمّا الدول العربية المطبِّعة فقد تشاركت الغضب مع إسرائيل والولايات المتحدة في البداية، وربما أَمِلَت أن تقضي الحرب على حماس متحمّلةً ضرورة تغيير الخطاب السياسي مؤقتًا إلى خطاب تضامني مع قطاع غزة إلى حين انتهاء إسرائيل من عمليتها. إلّا أنّ استمرار المقاومة في تكبيد إسرائيل خسائر، وانكشاف الكثير من الأكاذيب الإسرائيلية، وتضامن الشعوب العربية مع المقاومة الفلسطينية، جعل بعض الدول العربية تشدّد على ضرورة إيجاد حل عادل نسبيًا للقضية الفلسطينية شرطًا للتطبيع. 

وهو موقف مرهونٌ بصمود المقاومة ورصانة خطابها السياسي، وتجاوب أوساط واسعة من الرأي العالم العربي والعالمي مع ضرورة حلّ قضية فلسطين حلًا عادلًا، وإلّا عاد خطاب هذه الدول مرةً أخرى إلى ضرورة إيجاد تسويات أمنية سياسية لقطاع غزة.

الإبادة الجماعية أو القضاء على الوجود الفلسطيني

لفت بشارة، في تناوله مصطلح الإبادة الجماعية القانوني الذي صاغه المحامي البولندي رافائيل ليمكين عام 1944، الانتباه إلى أنّ المصطلح لم يأتِ بناءً على كارثة الهولوكوست، بل بناءً على جرائم أقلّ من المحرقة ارتكبتها قوّات الاحتلال الألمانية في الدول الأوروبية عمومًا. 

ويرى في هذا السياق أنّ المصطلح ينطبق تمامًا على نكبة الشعب الفلسطيني وكأنه صُمم خصيصًا للدلالة عليها، فهو يعني وجود خطة مُنسَّقة من أفعال مختلفة بهدف تدمير الأسس الجوهرية لحياة الجماعات القومية، وذلك يحدث من خلال تدمير النمط القومي للجماعة المضطَهدة، ومن ثم فرض النمط الوطني للمضطهِد. 

وبحسب وثيقة “أركان الجرائم” التابعة لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تتضمن أفعال الإبادة الجماعية القتل وإلحاق الأذى البدني أو المعنوي الجسيم، وفرض أحوال معيشية يقصد بها التسبب عمدًا في إهلاك مادي، وفرض تدابير تستهدف منع الإنجاب، ونقل الأطفال قسرًا. بمعنى أنّ أيًّا من هذه الأفعال هو إبادة جماعية، إذ كان القصد منها التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية، بصرف النظر عن عدد القتلى أو المنقولين من منطقة ما.

 وفي حالة إسرائيل من الواضح أنّها خططت لتهجير سكان قطاع غزّة، وظهرت دعوات علنية للقضاء على الوجود الفلسطيني فيه.

الدفاع عن النفس.. تزوير تحت غطاء القانون الدولي

في ختام المحاضرة، تطرّق بشارة إلى حق “الدفاع عن النفس” الذي تزعم إسرائيل بدعمٍ من الولايات المتحدة أن حربها على غزة لها ما يبررها بموجب القانون الدولي، مستشهدةً بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. 

واعتبر أنّ مشروع القرار الذي قدمته الولايات المتحدة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 21 أكتوبر 2023، الذي ينصُّ على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، يُعدُّ عملية تزوير وخداع باستخدام القانون الدولي نفسه لتصوير إسرائيل ضحيةً، حيث إنّ هذا المبدأ القانوني الدولي لا ينطبق على إسرائيل لأنّها دولة احتلال؛ فالضفة الغربية وقطاع غزة ليسا دولةً قائمة بذاتها خارج إسرائيل وقامت بالاعتداء عليها. 

وحتى لو تأكّد أن لإسرائيل حقًا طبيعيًا في الدفاع عن النفس، فإن المادة 51 تُقيّد هذا الحق بأن يكون متناسبًا مع الاعتداء، فضلًا عن أنه يُفترض في دولة الاحتلال أن تكون مسؤولة عن أمن المواطنين تحت الاحتلال وليس عن مواطنيها هي فقط.