المرأة التي كسرت تقاليد الاحتكار الذكوري لغُرف تحرير الأخبار السياسية بالصحف الأمريكية، شكّلت موهبتها وإمكانياتها الصحفية منطلقًا لتغيير عميق على مستوى تمثيلية النساء بالقطاع، وتكريس المساواة في حقوقهم المهنيّة ومكافحة كل أشكال التمييز القائمة على الجنْس.
طوال أكثر من نصف قرن، رسّخت باتسي وايد مكانتها كواحدة من أكثر النماذج النسوية المؤثرة في ميدان الصحافة المكتوبة بالولايات المتحدة، بما كرسته من نضالات نقابية ونسائية للدفاع عن حقوق الصحفيات، فضلًا عن تجربتها الريادية باعتبارها أول امرأة تدير غرفة التحرير بصحيفة نيويورك تايمز، إحدى أعرق وأشهر الصُّحف الأمريكية.
عن سنّ ناهز 91 عاما، رحلت وايد يوم الخميس الماضي في هدوء، وبعيدًا عن جلبة غُرف الأخبار وضجيج المُحرِّرين وضوضاء آلات الرقن والنسخ، في مشهد مغاير لمعظم فترات حياتها التي ارتبطت بالمهنة على الصعيد العملي والأكاديمي، من خلال تدريسها لعلوم الإعلام بعدد من الجامعات الأمريكية لسنوات طويلة بعد تقاعدها الوظيفي.
قد لا تعدّ مسيرة “المرأة التي تحكّمت في عناوين نيويورك تايمز” لسنوات طويلة، معلومة للقارئ العربي، لكنها تُمثّل نموذجًا إنسانيًا ومهنيًا مُلهمًا لآلاف الصحفيات بالعالم العربي وبلدان الجنوب، حيث ما تزال مستوى تمثيلية النساء بالمناصب القيادية بالمؤسسات الصحفية محدودة.
يمكن اختزال سيرة باتسي وايد، بكونها المرأة التي كسرت الحواجز التقليدية منذ دخولها قسم المحرّرين بنيويورك تايمز في أكتوبر 1956، والذي عدّ سابقة لم تحدث للمرة الأولى منذ 105 سنوات من تاريخ الصحافة الأمريكية في ذلك الحين.
كان الحضور النسائي بغرف التحرير بالصحف محدودًا، وشبْه مقتصر على محرّرات مكلفات بالمواضيع المتعلقة بالموضة والطبْخ، إلى جانب الوظائف الكتابية ومهام السكرتارية، وكانت أجورهنّ متدنية مقارنة بالرجال.
خلال سنوات قليلة تحولت وايد إلى أيقونة تحريرية لــ “نيويورك تايمز”، بفضل موهبتها وقلمها المميز والذي أهّلَها لصعود سُلّم المهام بالصحيفة، حيث تمّ تكليفها بتقييم المقالات وتعديلها، أين وضعت بصمتها الخاصة في تطوير مستوى التحرير ومعالجة الأخطاء اللغوية، كما تفنّنت في صياغة العناوين الرئيسية والصفحة الأولى.
واصلت وايد الصعود لسلم الترقيات نحو وظائف ذات مسؤوليات أكبر، لتكون كذلك أول امرأة بالقطاع الصحفي بالولايات المتحدة تُشرف على رئاسة تحرير المراسلين الأجانب، وصولاً إلى تكليفها سنة 1972، بمهام رئيس مكتب تحرير الطبعة الدولية للصحيفة.
إسهامات لم تقتصر على الصعيد المهني فحسب، فحقوق المرأة بالقطاع ومشاكل التمييز الوظيفي على أساس الجنس، كان محور نضالها على مستوى قضايا النوع الاجتماعي.
سلّطت إحدى الدراسات التي أنجزتْها خلال سنة 1972، الضوء على التمييز الوظيفي بالصحافة من خلال الرواتب التي تُعتبًر أقلّ بالنسبة للنساء مقارنة بالرجال في نفس الوظائف، إلى جانب محدودية الحضور النسائي بالمراكز القيادية والعليا، وكذلك ضمْن هيئات التحرير.
شكّلت هذه الدراسات منْطلقًا لأبرز انتصار حقّقته وايد في مجال المساواة المهنية، من خلال الحكم القضائي الذي صدر سنة 1978، بعد نزاع دام أربع سنوات لصالح 560 امرأة من موظفي نيويورك تايمز، ويُلزم الصحيفة بتعيين مزيد من النساء على مستوى التحرير، وإتاحة فرص الترقية والتقدم نحو المراكز القيادية، إلى جانب منْحة سنوية بعنوان التعويض عن “التقدم الوظيفي المتأخر أو الحرمان من الفرص”.
شكّل الحكم سابقة قضائية في تاريخ الصحافة المكتوبة بالولايات المتحدة، ومثّل عنوانًا في مسيرة وايد التي فتَحت الباب على مصراعيه بموهبتها الصحفية والتزامها القيمية، أمام مئات من النساء لبلوغ مناصب متقدمة على بالمؤسسات الصحفية والإعلامية بالولايات المتحدة، لتظلّ حتّى أيامها الأخيرة مدافعة عن المساواة ونموذجا “لشغف المهنة”.