مختار غميض
تعتبر فرنسا إقليم فزان بالجنوب الليبي إرثا مستحقّا، بينما أصبحت روسيا تمنح لنفسها الأحقية في الاستفراد بالمنطقة، واتّخاذها طريقا للتوغّل إلى العمق الإفريقي بعد تمكّنها من قواعد عسكرية ومن الخريطة الطبوغرافية للبلاد.
صراع بات أكثر وضوحا بعد أن كان خفيّا قبل سنوات، وما فضيحة اليورانيوم الليبي هذه المرة التي كشفتها وكالة الطاقة الذرية إلّا أحد أوجه الصراع بين روسيا وفرنسا على الكعكة الصفراء في ليبيا، امتدادا لصراع خارجها يتّخذ أحيانا شكل الصفقات المتبادلة.
إرث استعماري
خبرت فرنسا جيّدا الجنوب الليبي وتعتبره كغيره من المستعمرات الإفريقية؛ وهو الإقليم الغني جدا بشتى الثروات الباطنية من نفط وذهب وأورانيوم وغيرها.
المطامع الاستعمارية نفسها ما تزال تنظر بها باريس إلى الجنوب لقربه من الدول الإفريقية جنوب صحراء، مثل مالي وتشاد والنيجر حزاما اقتصاديّا داعما لفرنسا.
وذلك من خلال استغلال شركاتها للمناجم اليورانيوم في مالي والنيجر وتشاد والكوديفوار.
وتعتبر الاستفادة الفرنسية الكبرى هي فرض الفرنك الإفريقي-الفرنسي على أكثر من عشر دول إفريقية، مقابل وضع الجزء الأكبر من احتياطاتها في البنك المركزي الفرنسي.
هذا النفوذ الفرنسي القديم الجديد جعل باريس في منافسة لموسكو، وقفت فرنسا بقوة إلى جانب قوات الشرق وممثّلها خليفة حفتر، الذي منحه رئيس البرلمان عقيلة صالح كلّ الصلاحيات تحت مسمّى القائد العام للجيش.
كما أنّ دعم رئيس البرلمان لتطبيق النظام الفدرالي وفق الأقاليم القديمة، يعدّ عاملا يساعد فرنسا في استعادة أمجادها التليدة، نحو سهولة الولوج إلى مصادر الثروة التي تعرفها سابقا.
لكن في المقابل يعمل الروس منذ سنوات لاستعادة احتلال المنطقة وتقاسمها بالتعاون مع أنظمة عربية وظيفية، وترى روسيا لوجودها هناك أنّه بات أكثر أهمية من أيّ منطقة أخرى، بغية الضغط على الأوروبيين وعلى رأسهم فرنسا، الّذين يرون في ليبيا وإفريقيا عموما بديلا للطاقة الروسية، ما يضعف الإقبال عليها وهو ما لا تريده موسكو.
لذلك بدأت روسيا من خلال مرتزقة “فاغنر”، خاصّة بعد 2020 في الوجود الفعلي بمناطق إنتاج الطاقة الليبية بهدف منافسة فرنسا الموجودة بشركاتها في شرق البلاد وجنوبها؛ أي في النفوذ الروسي نفسه المتحالف مع حفتر.
هذا الاشتراك في مناطق الثروة أصبح يزعج الجانبين، فألقى بظلاله على الجانب الليبي الشرقي، ووضعه في إحراج دولي في ما يتعلّق بحلّ للأزمة الليبية، خاصّة أمام الولايات المتحدة.
وعليه صعدت واشنطن من لهجتها تجاه الروس وتجاه مصر والإمارات بدرجة ثانية، لفك ارتباطهما بحفتر سعيا إلى توحيد المؤسّسة العسكرية الليبية.
كما يهدف التدخّل الأمريكي من أعلى مستوى استخباراتي إلى إعادة الاعتبار لدور حلف شمال الأطلسي مع تشرذم الدور الأوروبي، حيث تسعى كل دولة إلى ضمان مصالحها الخاصّة، دون مراعاة المصلحة العليا للأعضاء ككتلة واحدة.
تحالف ظاهري
لسنا بحاجة إلى التذكير بتحالف الروس والفرنسيين مع قوات حفتر مبكّرا، منذ اعتراف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بمقتل طيارين فرنسيين في بنغازي سنة 2016، ثم انكشاف أمر غرفة غريان العسكرية في 2019، وهروب عناصر فرنسية عبر التراب التونسي.
تزامن ذلك مع شرعنة موازية للوجود الروسي بالشرق الليبي سنة 2017 خلال الزيارة الشهيرة لحفتر إلى البارجة الروسية قبالة بنغازي، حيث اعتبرها مراقبون إذنا رسميا بالتدخّل الروسي في الشأن الليبي وصكّا على بياض للدعم العسكري له.
هذا التماهي الروسي الفرنسي والمتزامن في شرق ليبيا يبدو تحالفا واسع النطاق، لكنّه في الواقع يُخفي صراعا على الثروة وعلى مواقع الإنتاج التي يمكن الوصول إليها بقوة السلاح.
لذلك غالبا ما يلتحف التقارب الفرنسي الروسي بغطاء دعم الجهة القوية التي يمكن أن توفّر الأمن والاستقرار، وهو ما جعلهما يدعمان حفتر باعتباره رجل ليبيا القوي ثم حكومة فتحي باشاغا تحت العناوين نفسها، بينما في الأصل هو تأمين مطامع فرنسا في شركاتها وإعادة الدماء إلى شرايين الاتّفاقيات القديمة مع نظام القذافي، وهي الغاية نفسها الروسية.
ضمن التوجّه نفسه لعبت فرنسا دور حصان طروادة بالنسبة إلى الروس، وحاول رئيسها ماكرون مرارا محاولة إقناع الأوروبيين أنّ روسيا صديق وليس عدوّا، وأنّ “الناتو” يجب أن يكون هدفه “الإرهاب الإسلامي” بدول إفريقيا وليس روسيا، على خلاف ألمانيا ودول أوروبا الشرقية التي رفضت هذا الموقف المتناقض من روسيا في ما يتعلّق بأوكرانيا.
لكن هذا التحالف النسبي لا يخلو من تغوّل فرنسي قديم مقارنة بمنافسة روسية ناشئة، تستغل فرنسا مناجم اليورانيوم بدولة النيجر المجاورة لليبيا، وهي المناجم نفسها التي قام نظام القذافي بتهريب اليورانيوم أو شرائه منها كما تذهب إلى ذلك معظم التقارير، بغرض بناء مفاعل نووي ليبي، قبل تدخّل القوى الغربية وتجريده من مشروعه.
وما تزال الشركات الفرنسية تهيمن على اليورانيوم الإفريقي وترغب -كما أشرنا- في الاستحواذ على كامل المنطقة المنتجة لهذه المادة الرئيسية للمحطات النووية الفرنسية، التي تستهلك أكثر من نصف حاجتها من اليورانيوم من هذه المنطقة.
هذه المقدرة الطاقية تسيل لُعاب الكرملين، الذي بات ينظر إلى المنطقة على أنّه منجم يحقّق استقلالا طاقيا تاما لروسيا، ما جعله في مواجهة مباشرة مع الفرنسيين من ناحية، ورغبة التمدد الأمريكية المتصاعدة، من ناحية أخرى.
فاختفاء أطنان من اليورانيوم في الآونة الأخيرة جنوب ليبيا يفسّر هذا الصراع المحموم، حيث تمكّنت “فاغنر” من السيطرة على قواعد عسكرية جوية قرب الحدود التشادية، ولم يستبعد البعض نقل “فاغنر” للبراميل المفقودة إلى روسيا، وهو ما جعل وكالة الطاقة الذرية تنبّه من خطورة اختفائها.
كما أنّ سرعة إعلان قوات حفتر بالصوت والصورة عن عثورها على الكميات المفقودة، كان رسالة طمأنة أو ربما لتفادي أيّ تدخّل دولي للبعث عنها كما ذهب إلى ذلك كثيرون، خاصّة أنّه ليس ثمّة ما يؤكّد إلى حد الآن ما يثبت أنّ تلك البراميل هي نفسها المفقودة.
أيضا، لا يمكن إخفاء رغبة فرنسا في استحواذها على الكمية المفقودة، وهي التي كانت قاب قوسين أو أدنى على شرائها من نظام القذافي في بداية العشرية الأولى من القرن الحالي.
بل سبق أن اعترفت السلطات الفرنسية بطموحها في استغلال منجم جنوب ليبيا تطابق جودة خامه مع مناجم النيجر نفسها، التي تستغلها إحدى الشركات الفرنسية الكبرى لإنتاج اليورانيوم.
لهذا السبب تعرف العلاقات الروسية الفرنسية في ليبيا تعاونا وتنافرا في الوقت نفسه، حسب تقاطع المصالح الفرنسي والروسي في ليبيا وفي المتوسّط، وسط صمت الجامعة العربية التي تدين مرارا التدخّل التركي في ليبيا والعراق، بينما تلتزم الصمت إزاء التدخّل الفرنسي الروسي بليبيا.
التدخّل الأمريكي
يعدّ التدخّل الروسي الجديد في إفريقيا من بوابة ليبيا كسرا للقاعدة الاستعمارية بأنّ شمال القارة السمراء للفرنسيس والإنجليز، لذلك اضطرّت فرنسا إلى مساندة الروس (لدفع الحل العسكري بدل الحلول السياسية) ضدّ الوافد الجديد وهو تركيا، التي تساند بقوة المعسكر الليبي الغربي، ضمن رؤية تركية تقوم على رؤية عالم يسير نحو التعدّدية القطبية.
العقيدة التركية من جهة والعقيدة الروسية المضادة لها، دفعت في الآونة الأخيرة الولايات المتّحدة إلى التدخّل للقول إنّه لا توجد مكاسب جيوسياسية للروس والأتراك ولا موطئ قدم لهما بشمال إفريقيا، وهي رؤية متناغمة مع فرنسا، ومخاطر أيّ تواجد عسكري من قواعد الأطلسي جنوب المتوسط.
في الأثناء تتموقع قوى أخرى ضمن دائرة محدودة وهي غالبا تابعة وليست متبوعة، فمصر أضعف من أن تدخل في عملية كبيرة في ليبيا رغم رغبتها الجامحة والمعلنة في ثرواتها، لذلك اقتصر دورها على التلويح بالحرب ودعم الجانب المهدّد بذلك، استرضاء للإمارات والسعودية، ومن ورائهما الحلف الفرنسي الروسي في ليبيا، وما لهما من مصالح كبيرة خارج ليبيا.
لذلك تنزعج الإدارة الأمريكية من الدور الفرنسي والروسي خشية تكرار السيناريو السوري نظرا لصورة “فاغنر” السيئة مع ما تفعله من تدمير في أوكرانيا، لذلك تحشد واشنطن لاستمالة الغرب على رأسهم باريس لوضع شرخ بينها وموسكو، في ليبيا وأوكرانيا على حد السواء وقد بدا الموقف الفرنسي واضحا في أوكرانيا أكثر من ليبيا.
ويعود ذلك بالأساس إلى التخوف الفرنسي من طردها نهائيا من مواقع الثروة الإفريقية، حيث أصبحت روسيا مطمئنة في الدواخل والأدغال الإفريقية مع بدإ القوى التقليدية في التبرم من المستعمر القديم ورفع بعض الدول صوتها للترحيب بقدوم الروس، ولنا في مالي خير مثال.
كان التدخل الروسي مغلفا بدعم فرنسي ثم أصبح متعدد الجنسيات، لكن بات اليوم التدخل الأمريكي مهيمنا، ما يعطي الانطباع عن صراع دولي منطلقه ليبيا وغايته إفريقيا، أمريكا قلقة من تمدد التحالف الفرنسي الروسي هناك وسيطرته على منابع النفط والغاز والتعدين.
كل الخشية أن تستعر هذه المخاوف إلى حرب على مقدرات الشعوب، التي اندلعت لأجلها ثورات ودماء، بل الخوف أكثر أن تكلف الدول الاستعمارية (المتكالبة علينا) الثمن مضاعفا لمن أشعلها على أساس “من يسبق يجني الثمار”.