عبدالسلام الزبيدي
لقد أحسن رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد صُنْعًا عندما بدّل في الدستور الجديد وفي معجم تنفيذ السياسات مصطلح السلطة القضائية بعبارة “الوظيفة”.
واستحسان قوْله ليس أمرًا قيميًّا أو انحيازًا إلى ما أتاه من فعل سياسي، وإنّما هو تعبير عن أنّ هذا التغيير يُعبّر بشكل أصدق عن السياسات المُتَّبَعة، فلا يتخفّى أو يتمترس وراء قوالب مفهومية مُستطاعها الأكبر تجميل القُبْح السياسي.
إنّ تدحرج القضاء من موضع “السلطة” إلى موقع “الوظيفة” يُقحمنا فعليًّا في عالم الإمكانيات المفتوحة التي يتيحها “التوظيف”، ليس من قِبَل كاتب الدستور والآمر بالاستفتاء والممضي عليه والآذِن بالنشر والمؤتمن على التفعيل والساهر على التطبيق فقط، فالباب مفتوح كذلك لكلّ من استطاع إلى التعاطي مع هذه الوظيفة سبيلا.
بين الصلح الجزائي والمجلس الأعلى للقضاء
يمكن اختزال الهدف الأساسي من تغيير تموضع هذه السلطة المرتّبةُ ثالثة كونيًّا وجعلها مجرّد وظيفة في أنّ المنظومة الحاكمة اليوم في تونس تعمل على جعل القضاء أداةً تُنفّذ من خلالها إستراتيجيتها، وتُنزِّلُ بواسطتها مشروعها السياسى، وتُدير بها معاركها.
ولن نقوم بإحصاء كلّ أوجه التوظيف أو تعداد جميع أشكال التطويع، فيكفي في هذا المقام تقديم الأدلّة والمؤشرات، فهدفنا تقديم ما به نفهم واقعنا سريع التطوّر والتحوّل.
لقد ذهب قطاع واسع من الرأي العام النخبوي والشعبي إلى القول إنّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد قلّص من امتيازات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء المنتخب في مرحلة أولى، قبل أن يحلّه في شهر فيفري/فبراير من السنة الماضية 2022، بسبب سعيه إلى التسريع في إصلاح القضاء ومحاربة الفساد أو لوضع اليد والسيطرة ثمّ تصفية الخصوم.
وبغض النظر عن صواب رأي المناصرين لما أتاه سعيّد أو معارضوه، فإنّ الأسباب أعمق من ذلك. فالمجلس الأعلى للقضاء كان حجرة عثرة أمام تنفيذ الرئيس أحد مشاريعه الأساسية المتمثّل في “الصلح الجزائي”، حيث يتطلّب إرساء آليات هذا الصلح ترشيح قضاة للقيام بمهام المحاسبة واستخلاص الأموال من رجال الأعمال المتّهمين بالفساد والسطو على ثورة الشعب.
لكن ذاك المجلس رفض الترشيح وحجته أنّه لن يكون جسرًا لإرساء قضاءٍ استثنائي تحت إشراف السلطة التنفيذية، وأحكامه ناسخة لأحكام سابقة، وقراراته لا تعقيب عليها.
إنّ المجلس الأعلى للقضاء المنتخب رمز السلطة القضائية مثّل عقبة أمام تنفيذ مشروعٍ سياسي، فكان ما كان من إجراءات بدايتها الحلّ فالعقاب بالعزل وتنزيل المقام من سلطة إلى وظيفة، وتبقى مهام محاربة الفساد وتسريع التقاضي “كلمات حق” عند الأنصار و”أُريدَ بها باطل” عند من لا يناصرون العهد الجديد.
الهندسة السياسية بالوظيفة القضائية
وإذا كانت إزاحة المجلس الأعلى للقضاء ضرورية لتنفيذ إستراتيجية استرجاع أموال الشعب المنهوبة، فإنّ إدخال تغييرات جوهرية على مواقع القضاة خاصة في المواقع ذات القيمة المضافة والمحدّدة لنسق التقاضي إبْطاءً وتسريعًا غدا أمرًا مستعجلاً.
ولعلّ ما تشهده تونس من تسارع لنسق الإحالات القضائية لمن لا يسيرون في ركب مسار 25 جويلية/يوليو يُعدُّ مؤشِّرًا واضحا في هذا الاتجاه، خاصة أنّ ما يجري كان، عقب عزل 57 قاضيا وقاضية بمرسوم رئاسي يوم 1 جوان/يونيو 2022، مؤشّرا حتى لا نقول دليلا على هذا التوجّه. والمهم عندنا ليس تعداد الإحالات وإنّما فهم سياقاتها.
ومن اليسير وصْف هذه السياسة عند المدافعين عنها بأنّها حتمية لتخليص البلاد ممّن أجرموا في حقّها، وأنّها مهمة مستعجلة لإيقاف نزيف الإفلات من العقاب وغلق الملفات التي ساهمت في تعفين الوضع السياسي على غرار الاغتيالات والإرهاب وتبييض الأموال.
ومن اليسير كذلك وصْف هذه السياسة من قبل المعارضين بأنّها تعسفّية، وأنها من إرهاصات الاستبداد والديكتاتورية، وأنّها حملة مُمنهجة لتصفية الخصوم عن طريق القضاء المُوظَّف من السلطة السياسية.
لكن ما يلتقي فيه المناصرون والمعارضون هو الإقرار ضمنيًّا بأنّ الوظيفة القضائية غدت أداة فعلية لإعادة هندسة المشهد السياسي في تونس.
فمن يبارك ما تقوم به السلطة التنفيذية يعتبر أنّ شرط إمكان الإصلاح السياسي هو فتح الملفات القضائية للطبقة السياسية “ما قبل 25″، ومن يعارضه يرى أن التمكين لمشروع رئيس الجمهورية مشروط بتحويل المعارضين إلى ملفات قضائية قد يترتّب عنها إخلاء الساحة منهم، وإذا وجد أحدهم الساحة شاغرة فلن يتردّد في “إقامة الأذان” كما يقول المثل التونسي.
وللحديث بقايا…