لم يكن المجتمع التونسي ولا السلطات مهيئة لوجود كثيف للمهاجرين غير النظاميين وخاصة في ولاية صفاقس.. وبعوامل الشحن السياسي والاقتصادي والاجتماعي حصلت احتكاكات ومناوشات جعلت وجودهم أزمة لكل الأطراف
محمد بشير ساسي
تطلّ قضيّة المهاجرين الأفارقة في تونس برأسها بين الحين والآخر لتُعيد طرح نفسها بأعباء أثقل على كاهل السلطة السياسية وبهواجس متعاظمة على مدينة صفاقس الواقعة جنوب شرقي البلاد التي تعيش على وقع وقفات احتجاجية متواترة للأهالي رفضا لممارسات عدد من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء.
ومع تفاقم الأزمة الحسّاسة التي باتت تشكّل صُداعا مزمنا لسكان مناطق المساترية والعامرة واللوزة وجبنيانة، توحّدت أصوات حناجرهم حول مطالبة السلطات بالتدخّل لحمايتهم من المهاجرين الذين يعمدُون إلى مهاجمتهم في محلاّتهم وسلبهم أموالهم وهواتفهم الجوالة والاعتداء عليهم في ممتلكاتهم بالأسلحة البيضاء، ووصلَ بهم الأمر إلى تشكيل عصابات منظّمة لترويج المخدّرات انطلاقا من الملاجىء والمخيّمات التي أقاموها داخل حقول الزيتون والمزارع.
وجهة العبور
قبل مناقشة الطريقة التي يُدير بها الفاعلون السياسيون في تونس هذا الملف الثقيل وتفاعل والمجتمع المدني مع الظاهرة الديناميكية والعوامل التي تخترقها (منها ما هو مرتبط بالتحولات الاجتماعية، وما هو مرتبط بعلاقات الدول فيما بينها أي بما هو جيوسياسي) لابد من الوقوف في البداية على معطيات وظروف في غاية الأهمية، ساهمت بشكل كبير في تحوّل البلد المغاربي إلى مركز عبور للمهاجرين الأفارقة وطالبي اللّجوء من إفريقيا جنوب الصحراء في طريقهم إلى أوروبا، ما عزّز نشوء اقتصاد هجرة في تونس وتحديدا بمدينة صفاقس.
من المعلوم أن تونس تقع في صُلب تحوّل كبير يطرأ على مشهد الهجرة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. فقد أصبحت نقطةَ عبور رئيسة للمهاجرين وطالبي اللجوء من إفريقيا جنوب الصحراء، لا سيّما من السودان وتشاد وغينيا ومالي وساحل العاج وغيرها بهدف الوصول إلى أوروبا.
فبعد أن كانت الهجرة غير النظامية مقتصرة على التونسيين تقريبا، تغيّرت المعادلة منذ العام 2015، ومع إلغاء تونس وبلدان إفريقية برامج التأشيرات المتبادلة، أصبح مشهد تدفق المهاجرين الأفارقة مألوفا.
ووفقا لتقرير هيومان رايتس ووتش، فإن جنسيات المهاجرين الأفارقة ترجع بالأساس إلى دول كوت ديفوار، الكاميرون، مالي، غينيا، تشاد، السودان، والسنغال، أما عن أسباب تزايد أعداد المهاجرين، فيمكن تلخيصها كالآتي:
– البحث عن فرص اقتصادية: الفقر والبطالة في دول جنوب الصحراء يدفع العديد من الأشخاص إلى الهجرة غير الشرعية بحثا عن فرص عمل أفضل في الدول المجاورة أو في أوروبا، فضلا عن الفجوة الاقتصادية بين الدول النامية والدول الغنية، تعتبر محرّكا رئيسيّا للهجرة، خاصة إن كانت محاولات الهجرة رامية إلى ما هو أبعد من تونس إلى أوروبا.
– الحروب والصراعات: النزاعات المسلحة والحروب والانقلابات في بعض الدول مثل السودان، الصومال،إريتريا وغيرها من الدول الإفريقية، وما خلّفته من تهجير الكثير من الأشخاص الذين يحاولون البحث عن مناطق آمنة في الدول المجاورة أو في أوروبا.
– الاضطهاد وحقوق الإنسان: يتم التنكيل بالأفراد في بعض الأحيان بناءً على انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو الجنسية أو يتعرضون لاضطهاد سياسي في بلدانهم الأصلية، وفي هذه الحالات يمكن أن يكون الهروب الوحيد من هذه الظروف هو الهجرة غير الشرعية.
– التغيرات المناخية والجفاف: التغيُّر المناخي يؤدي إلى الجفاف وتدهور الأمن الغذائي في بعض الدول الإفريقية والذي يعتبر أيضا محركًا للهجرة.
– شبكات الهجرة غيــر الشرعية: تـــــوجد شبكات متخصــــصة في تهريب الأشخاص عبر الحدود بطرق غير شرعية، وهذه الشبكات تستغل الرغبات اليائسة للأشخاص الذين يرغبون في الهجرة والبحث عن حياة أفضل.
تسبّب الاتفاق الموقّع في العام 2017 بين إيطاليا وليبيا بشأن الهجرة بدعم من الاتحاد الأوروبي في توجيه المهاجرين من جنوب الصحراء نحو تفضيل الدخول إلى تونس بدلا من ليبيا، ومع بدء انخرام الوضع الأمني في الجارة الغربية وتشكّل مليشيات منفلتة مارست الاختطاف والحجز والعنف الممنهج ضد المهاجرين، تحوّلت وجهتهم إلى تونس عبر الحدود الليبية والجزائرية بأعداد كبيرة ومعظمهم كانوا يأملون في إكمال طريقهم إلى أوروبا.
علاوةً على ذلك فَقَدَ الكثير من المهاجرين من جنوب الصحراء الموجودين أساسًا في تونس وظائفهم غير الرسمية بسبب تفشّي (جائحة كوفيد-19) فاضطروا إلى البحث عن فرص عمل في أماكن أخرى.
وخلال النصف الثاني من العام 2022، شكّل الأفارقة من جنوب الصحراء وليس التونسيين المجموعة الأكبر المهاجِرة إلى أوروبا من تونس، واكتسب هذا المنحى زخمًا في العام 2023 ما عزّز دور تونس مركزا للهجرة.
وحسب أرقام وبيانات منظمة الهجرة الدولية ووكالة حرس الحدود والسواحل الأوروبية (فرونتيكس)، فقد تجاوزت تونس منذ سنة 2020 ليبيا المجاورة لها منطلقا للهجرة غير النظامية نحو إيطاليا، وفي عام 2023 وصل 61% من الوافدين إلى إيطاليا من تونس مقابل 33% فقط من ليبيا.
كما تشير الإحصاءات أيضا إلى أنه حتى عام 2022، كان التونسيون يمثلون غالبا أكثر من 50% من نسبة الواصلين إلى إيطاليا عبر القوارب، لكن في سنة 2023، باتت النسبة 18% فقط من جملة 97 ألفا وصلوا إلى إيطاليا انطلاقا من تونس.
ومثلت نسبة الأفارقة من جنوب الصحراء نحو 80%، فيما اعترض خفر السواحل التونسي نحو 70 ألف مهاجر عام 2023، معظمهم من الأفارقة، وغالبيتهم انطلقوا من سواحل محافظة صفاقس.
لا تتوفر إحصاءات دقيقة لأعداد المهاجرين غير النظاميين في تونس، لكن بعض التقديرات تشير إلى وجود ما بين 80 ألفا و100 ألف مهاجر، قد يكون بينهم نحو 25 ألف مهاجر غير نظامي وهو عدد قليل مقارنة بليبيا مثلا، حيث يوجد أكثر من 700 ألف مهاجر غير نظامي، حسب أرقام منظمة الهجرة الدولية الصادرة في ماي 2023.
حزام الهجرة
في إطار سوسيولوجيا الهجرة ومتغيراتها، باتت مدينة صفاقس في علاقتها بجزيرة لامبيدوزا مركزا في مسار الهجرة المتوسطي والمحور الأساسي لقضية الهجرة في تونس.
وتجاوزت مدنا أخرى على الخط الساحلي، مثل جرجيس والمهدية ومدن الوطن القبلي (محافظة نابل)، بفعل القرب الجغرافي من الجزيرة الإيطالية، وكذلك مدن زوارة والزاوية وطرابلس وصبراتة وصرمان والعجيلات (غرب ليبيا) وبنغازي وطبرق (شرق ليبيا).
ولا تتجاوز المسافة بين صفاقس وجزيرة لامبيدوزا الإيطالية 190 كيلومترا -وهي أقل من ذلك انطلاقا من مدينة الشابة أو المهدية أو المدن الأخرى في ذلك الخط الساحلي-، في حين قد تستمر الرحلة في الظروف العادية ومن نقاط معينة نحو 10 ساعات إلى 18 ساعة، مما جعل هذا الشريط ومدنه وقراه نقطة جذب قوية للمهاجرين غير النظاميين.
كما أسهم قرب المحافظة من المعابر على الحدود الجزائرية (عبر ولايتي القصرين وقفصة) والليبية (عبر محافظتي مدنين وتطاوين)، وكذلك توفر فرص العمل الظرفية للمهاجرين (قبل التوترات والتضييقات على تشغيلهم تحت طائلة المساءلة القانونية)، بحكم أنها مدينة كبيرة وتعد العاصمة الاقتصادية للبلاد في جعلها المقصد الأبرز.
وهكذا أدى العدد المتزايد من المهاجرين القادمين إلى تونس بشكل عام ومدينة صفاقس خصوصا إلى إنشاء نظام اقتصادي متشابك للهجرة غير النظامية نحو إيطاليا، تطور بتطور أعداد الوافدين وزيادة الطلب.
تكونت تبعا لذلك شبكات تهريب وسمسرة محلية وعابرة للحدود، اكتسبت مرونة وقدرة على التكيف مع المتغيرات الأمنية والسياسية، يديرها تونسيون، وكذلك مهاجرون وجدوا طريقهم إلى الاستقرار في تونس، فبنوا شبكات تهريب أو وساطة (تنسيق) تستهدف مواطني دولهم بدرجة أولى، وتعمل هذه الشبكات عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، ويرتبط بعضها بشبكات تهريب البشر الدولية.
وتشير تقديرات منظمة الهجرة الدولية ومراكز بحث تونسية إلى أن الحزام الساحلي بين محافظتي صفاقس والمهدية، (التي تبعد عن جزيرة لامبيدوزا بين 188 و133 كيلومترا) تنطلق منه نحو 75% من القوارب المغادرة إلى إيطاليا، خصوصا من مدن العامرة وجبينانة واللوزة وعقارب والحمايزية وقبل ذلك قرقنة (محافظة صفاقس)، والشابة وقرى صغيرة أخرى بمحافظة المهدية وبدرجة أقل جرجيس وبنقردان (محافظة مدنين) ومدن وقرى بمحافظة نابل وبنزرت..
سردية السيادة
بشكل عام لم يكن المجتمع التونسي ولا السلطات التونسية مهيأة لوجود كثيف للمهاجرين غير النظاميين في البلاد، وبعوامل الشحن السياسي والاقتصادي، حصلت تباعا احتكاكات ومناوشات، جعلت وجودهم أزمة لكل الأطراف.
ومع تدهور الوضع الاقتصادي وزيادة موجات القادمين، تغيّر مزاج التونسيين تجاه المهاجرين الأفارقة، خاصة أن البلد لم يعد يتحمّل الأعباء المالية والتكاليف للآلاف على أراضيه، وخاصة تأثيراتها الاجتماعية في ظل شكاوى مستمرة من قرى محيطة بولاية صفاقس من الوضع الأمني والاجتماعي والاقتصادي الذي أنتجه وجود المهاجرين الأفارقة.
يرى مراقبون أنه رغم محاولات التضييق في تونس لتقليل عدد المهاجرين الوافدين، والمخاطر الكثيرة التي تهددهم في مسارات الهجرة الطويلة من جنوب الصحراء، أو الاستغلال والعنف والابتزاز، من قبل عصابات التهريب والمهربين والسماسرة، فإن موجاتهم لا تنقطع عن الوصول إلى بلدان العبور وبالأخص تونس.
في المقابل ظلت السلطة السياسية تردد السردية ذاتها بأنها ترفض أن تُمس تونس في سيادتها الوطنية ولن تقبل لعب دور شرطي أوروبا كما لن تكون بلد عبور أو توطين لهؤلاء المهاجرين.
ففي كلمة ألقاها أمام مجلس النواب، أكد محمد بن عياد، كاتب دولة لدى وزير الشّؤون الخارجيّة والهجرة والتّونسيّين بالخارج، أن بلاده وبالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة بالإضافة إلى الجارتين الجزائر وليبيا، أعادت ما مجموعه 7250 مهاجراً غير نظامي إلى بلادهم خلال عام 2024، وأشار كاتب الدولة إلى أن الإنتربول قدر التدفقات المالية السنوية التي تولدها شبكات تهريب المهاجرين بنحو 4 مليارات دولار.
بالتوازي مع ذلك كشفت جهات أمنية تونسية أن عدد المهاجرين غير النظاميين الذين غادروا باتجاه أوروبا انطلاقًا من السواحل التونسية، تقلّص بصفة ملحوظة حسب تقرير الوكالة الأوروبية للحدود وخفر السواحل (فرونتكس)، وأوضحت أنه عدد هولاء المهاجرين انخفض بنسبة 80%، ليتراجع من 97.667 مهاجرا في 2023 إلى 19.245 مهاجرا في 2024.
كما أشارت الجهات الأمنية إلى أنّ تنامي هذه الظاهرة وتنوّع عدد المهاجرين من 22 جنسية، استوجبا من السلطات الأمنية بمختلف أسلاكها تكثيف الجهود وتشديد الرقابة على السواحل التونسية وعلى الحدود مع البلدان المجاورة، مضيفًا أن “الهدف من هذه المقاربة الأمنية هو تغيير الاعتقاد السائد أنّ الوصول إلى الفضاء الأوروبي عبر تونس سهل” وفق وصفها.
“دولة داخل دولة”
وسط هذا المشهد تشير مراكز أبحاث ومحللون إلى أن تونس جراء وطأة الأزمة وغياب الأطر القانونية تقارب مسألة الهجرة غير النظامية وفق ردود فعل انفعالية وإجراءات تكتيكية، تعتمد بالأساس المقاربة الأمنية التي تشوبها أحيانا عمليات عنف وطرد جماعي، كما يصفها مهاجرون، ووثقتها منظمات حقوقية على غرار ما حصل في الأيام الماضية حسن قامت السلطات بتفكيك خيام في مزارع بالمنطقة الريفية بمعتمدية جبنيانة، التابعة لولاية صفاقس التي ما تزال تشهد احتقانا بين السكان المحليين والمهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء.
في الواقع تأتي هذه العملية الأمنية الأخيرة في أعقاب انتقادات سابقة لنواب في البرلمان لأزمة الهجرة المتفاقمة في ولاية صفاقس وتحذيرات من تزايد خطر المهاجرين الذين باتوا يشكلون “دولة داخل الدولة” على حد وصف النائبة فاطمة المسدي، لتعيد إلى الذاكرة تصريحات الرئيس قيس سعيد خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي في فيفري 2023، حين حذر من “ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديموغرافية لتونس” من أجل “توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء.
ودعت النائبة الرئيس سعيد إلى زيارة مخيمات المهاجرين الأفارقة في منطقتي العامرة وجنيانة ومعاينة الوضع المرعب في مخيم هنشير بن فرحات، من أجل اكتشاف وجود دولة داخلة الدولة، مشيرة إلى وجود عمارات ومستشفيات خاصّة بهؤلاء المهاجرين غير النظاميين بالعامرة.
وتحت قبة مجلس الشعب التونسي ثمة تحرك من قبل بعض النواب من أجل تقديم جملة من المقترحات إلى رئاسة المجلس، تتعلق بالمهاجرين المقيمين بصفة غير شرعية على التراب التونسي من بينها منع إسناد الجنسية التونسية للمهاجرين المقيمين بصفة غير شرعية، حتى لو كانت ولادتهم في تونس، وكذلك منعهم من تملك الأراضي غير المسجلة أو إجراء أيّ عمليات عقارية على التراب التونسي، إلى جانب سن قانون لحماية القوات الأمنية والعسكرية الحاملة للسلاح أثناء أدائهم مهامهم في مكافحة الهجرة غير النظامية.
تناغما مع هذه الدعوات، أطلق نشطاء تونسيون حملة على الفضاء الأزرق بعنوان “الشعب يريد إلغاء الاتفاقية”، للمطالبة بإلغاء اتفاقية الهجرة التي أبرمتها السلطات مع الاتحاد الأوروبي في 2023.
واعتبر القائمون على الحملة أن هذه الاتفاقية حولت تونس إلى “حارس” لحدود أوروبا، حيث تسببت في وقف تدفق المهاجرين غير النظاميين نحو أوروبا بنسبة 80 في المئة عام 2024، وفقًا لتصريحات وزير الداخلية الإيطالي.
فشل المقاربة الأمنية
ينظر على نطاق واسع إلى أن المقاربة الأمنية والانفعالية للسلطات التونسية كانت هي الغالبة في غياب نهج واضح للتعامل مع قضية الهجرة والتدفق غير المسبوق للمهاجرين، مثلما لاحظت المنظمات الحقوقية التي اعتبرت أن إزالة المخيمات من قبل قوات الأمن والتهجير القسري تأتي في صلب الاتفاقيات الموقعة بين تونس والاتحاد الأوروبي، الذي بات يغض الطرف عن سوء تعامل السلطات التونسية مع المهاجرين، وفق ما ذكرته منظمات تتابع أوضاع المهاجرين غير النظاميين.
في المقابل تسوّق السلطات التونسية أن تعاملها مع المهاجرين ليس بالصورة التي تقدمها المنظمات الحقوقية، وأنه لا يختلف كثيرا عما تقوم به دول أوروبية وهي التي تصدهم بدورها، في حين تتساهل البلدان المجاورة في عبورهم ودخولهم الحدود التونسية. لكن وضع المهاجرين الأفارقة الذين لم تتح لهم فرصة العبور إلى إيطاليا بات صعبا، كما وجدت السلطات التونسية نفسها أمام تحديات أمنية واقتصادية وانتقادات مستمرة من المنظمات الحقوقية وضغوط من الاتحاد الأوروبي.
فرغم محاولتها التنسيق مع دول أفريقية مثل غينيا وساحل العاج ومالي لتفعيل العودة الطوعية لمواطنيها مقابل التنازل عن العقوبات المفروضة على المهاجرين غير المصرح لهم الذين يختارون العودة إلى وطنهم، فإن عددا قليلا اختار العودة، باعتبار أن كثيرا منهم أصبحوا يرون أنفسهم قاب قوسين أو أدنى من حلمهم الأوروبي.
وفشلت أيضا محاولة السلطة في تفكيك شبكات التهريب أو السيطرة على ما يعرف باقتصاد الهجرة، الذي أصبح مزدهرا ويدر أرباحا كبيرة على المنخرطين فيه بمختلف مستوياتهم، فإضافة إلى الحالات الفردية، بات تهريب المهاجرين برا وتمكينهم من العبور إلى إيطاليا عبر تونس أشبه بالمنظومة المعقدة الشديدة المرونة والاستجابة لمتطلبات الوضع والتكيف مع التكتيكات الأمنية أو القانونية.
ووفق بعض الدراسات، فإنه رغم محاولات تونس (وقبلها ليبيا ودول أخرى) لفرض التضييقات على المهاجرين ومعالجة الظاهرة أمنيا، فإن موجات التدفق لم تشهد تراجعا كبيرا، في حين أدت إلى زيادة كبيرة في الرسوم التي يطلبها المهربون والسماسرة، كما ارتفعت نسبة الغرقى جراء محاولات العبور العشوائية في مراكب متداعية، ونشطت صناعة المراكب الحديدية التي لا تصلح للعبور.
ويشير محللون إلى أن الظاهرة المتفاقمة وحركة التدفق غير المسبوقة، لا يمكن حلها فقط وفق المقاربة الأمنية التي لا تخلو من تجاوزات وانتهاكات، ويستعصي حلها جذريا على قوات حرس الحدود أو السواحل، ما يستدعي اعتماد مقاربة مختلفة واستراتيجية تراوح بين القانوني والإنساني والأمني المعدل، ويتجاوز تونس إلى المستوى الإقليمي والأوروبي.
اللافت حسب مراقبين أنّ السلطات التونسية لا تتوفّر فيها قاعدة بيانات شاملة بشأن جلّ المهاجرين غير النظاميين الوافدين إلى البلاد، ولا تمتلك معلومات دقيقة بشأن عددهم، وهوياتهم، وجنسياتهم، ومسارات دخولهم البلاد، وأوضاعهم الصحّية والمهنية، وخلفيات اختيارهم الوجهة التونسية. كما لا تمتلكُ استراتيجية واضحة المعالم للإحاطة بهم من النواحي الإغاثية واللوجستية والإنسانية.
وتكتفي الجهات الرسمية التونسية بتدبير مسألة الهجرة غير النظامية من منظور أمني، من خلال تعقّب المهاجرين غير الشرعيين، ومحاصرتهم، ومنع نفاذهم إلى دول الشمال.
وفي ظلّ تقصير المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين في تأمين الرعاية الشاملة للمهاجرين غير النظاميين، تتهم جهاتٌ حقوقيةٌ السلطاتِ التونسيةَ بسوء معاملتهم، وعدم توفير ملاجئ لهم، وعدم تطوير المنظومة التشريعية المُتعلّقة بهم، ودفعهم إلى مغادرة البلاد أو تركهم إلى مصيرهم، وهو ما تنفيه الجهات الرسمية التونسية.
وتبدو أوروبا الرابح الأكبر من أمننة الهجرة غير النظامية، وتصدير حدودها نحو تونس، التي غدَت بمثابة الجدار العازل للهجرة غير القانونية نحو القارّة العجوز، في المقابل فإنّ الأوضاع في تونس تزدادُ تعقيدًا من النواحي الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية المرتبطة بالنجاح في إدارة معضلة الهجرة غير الشرعية من عدمه.
أما خارجيا فيعتقد محللون أنّ تونس قد تنجح في كسب ودّ الاتحاد الأوروبي بعملها على تأمين حدوده الجنوبية من أفواج المهاجرين غير النظاميين. لكنّها في المقابل ستكابد تداعيات عبورهم أو بقائهم العشوائي في تونس. وقد تخسر علاقاتها ببعض الدول الإفريقية، التي أصبحت تعتبر تونس “دولة طاردة للمهاجرين”، وترميها بشبهة “ممارسة العنصرية ضدّ الأفارقة”.