النّقل العمومي في تونس.. شريان الحياة المتصلّب (تقرير)

محطّات النقل.. معاناة يوميّة تؤرّق التونسيين يسرى ونّاس هو قطاع يمثل شريان حياة لأكثر من 70 % من التونسيين، إذ يكابد الآلاف منهم يوميّا مشقّة الانتظار لساعات مطولة على قارعات الطرق وحافات المحطات على أمل وصول حافلة قد تقلهم إلى مقر عملهم أو منه إلى مقر سكناهم. ولا يطلب هؤلاء الكثير، بل أملهم الوحيد إيجاد مكانِ شاغر لا للجلوس وإنما للوقوف في وضعية غير مريحة “بالمرّة” وسط اكتظاظ وازدحام باتا وصفين ملازمين لوسائل النقل في تونس خاصة خلال فترات الذروة، ناهيك عن معاناة الانتظار بمحطات “المترو الخفيف” لوقت طويل نتيجة التأخّر المستمر، فإن حالف الحظ البعض سيجدون مقعدا بجانب نافذة زجاجها محطم أو باب لا يمكن غلقه. وعلى مدار سنوات، عانى قطاع النقل في تونس من اهتراء أسطوله، وتقادم أبرز وسائله من حافلات وعربات مترو وقطارات. ولعل حادثة احتراق محرك حافة مدنين-تونس مطلع الشهر الحالي، أماطت اللثام عن واقع القطاع أيضا، إذ لم تمر مرور الكرام بل أعادت إلى الواجهة أزمة أحد أهم المجالات الحيوية في تونس والمؤثرة بشكل كبير في الحياة اليومية للمواطن التّونسي. ويبلغ عدد خطوط الحافلات في تونس الكبرى 232 خطا، يغطّي ما يزيد عن 1650 محطة في رحلات يومية يؤمّنها أسطول حافلات مهترئ تجاوز سن بعضها 20 سنة وعربات مترو قديمة لم تجدّد منذ نحو 40 سنة تقريبا، والأمر ينسحب على أسطول قطارات “التي جي أم” التي يعود تأسيس أول سككها إلى سنة 1872. تردّي الخدمات وجعل تردّي خدمة النّقل العمومي شقا واسعا من التونسيين يهجرونه إلى وسائل نقل خاصة بينها النقل الجماعي وسيارات الأجرة وحتى النقل البديل أو ما يُعرف بـ “الكوفواتيراج” وهو ما يفسر بتراجع عدد السفرات المنجزة من طرف الشبكات الثلاث الحافلات والمترو وقطار التي جي أم، من 1211٫4 ألف سفرة سنة 2014 إلى 1087٫1 ألف سفرة سنة 2019. إضافة إلى تراكم نسب السفرات الملغاة بعد برمجتها على مختلف الشبكات، إذ بلغت نسبة إلغاء السفرات 40٫3% بالنسبة لشبكة الحافلات و27٫7% بالنسبة للشبكة الحديدية خلال السّنة نفسها. ويمثّل النقص في الأعوان ونقص المعدّات الأسباب الأساسية لإلغاء السفرات المبرمجة. ووفق بيانات رسمية، فقد تراجع أسطول الحافلات في تونس من 1439 حافلة سنة 2019 إلى 434 حافلة سنة 2024، إضافة إلى تسجيل انخفاض في عدد عربات المترو الجاهزة للاستعمال إلى حدود 40 عربة من جملة 189. وتجاوزت نسب السفرات الملغاة 70% بالنسبة لشبكة الحافلات و80% بالنسبة للشبكة الحديدية في سنة 2019. بدائل.. ولسدّ ثغرات القطاع وتطوير النقل الحديدي بإقليم تونس الكبرى والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية في البلاد قامت وزارة النقل منذ سنوات بتمديد الشبكة الحديدية السريعة عبر إحداث خمس خطوط سريعة تمر عبر السيجومي ومنوبة وبرج السدرية وأريانة الشمالية. كما تسلمت تونس مطلع الشّهر الحالي 80 حافلة نقل حضري ضمن الدفعة الأولى من أصل 165 حافلة معدّلة تم تخصيصها في إطار اتفاقية هبة مع مؤسسة “إسل دو فرانس موبيليتي” والوكالة المستقلة للنقل بباريس، وذلك على هامش الألعاب البارلمبية الأخيرة بباريس. وللتقليص من نقص الحافلات، ستتسلّم تونس الشهر الحالي 300 حافلة مستوردة من الصين ضمن صفقة بقيمة 55 مليون دولار وقّعتها شركة نقل تونس مع شركة كينغ لونغ الصينية لصناعة الحافلات. ويصف متابعون بعض الحلول التي عمدت إليها وَزارة النقل خلال السنوات الماضية من خلال اقتناء حافلات قديمة “ترقيعية” وغير ناجعة وقادرة على إنقاذ الأسطول المنهك أصلا. وقامت وزارة النقل بين سنوات 2016 و2019 بشراء عشرات الحافلات القديمة يفوق معدل عمرها 10 سنوات، وكان أغلبها أقرب إلى الصيانة من  قدرتها على المساعدة في تقليص النقص في الأسطول. المترو الخفيف.. تعطل صيانة وتخريب ورغم أن شبكة المترو التي يعود تأسيسها إلى ثمانينات القرن الماضي لا تربط مختلف مناطق العاصمة إلا أنها ساهمت في وقت سابق في تعزيز عمليات نقل المواطنين إلى جانب الحافلات لكنها شهدت على مدى السنوات الماضية عمليات تخريب وشجار ورشق بالحجارة، ما زاد من تدهورها وعطّل عمليات صيانتها وإصلاحها. وفي تصريحات إعلامية سابقة، أكّد رئيس مدير عام شركة نقل تونس عبد الرؤوف الصالح، أنّ عدد عربات المترو مازال محدودا ولا يفي بمتطلبات وانتظارات المواطن. من جهته، أكد المدير الفني بالشركة أسامة الهمامي في تصريح سابق لـ”الصباح نيوز” أن 80% من أسطول عربات المترو الخفيف التي يعود إرساؤها إلى أكثر من 35 عاما غير جاهزة للاستعمال”. ورغم إحداث شبكة نقل سريعة الـ” أر أف أر”.. إلا ان ذلك لم يقلّص من معضلة النقل في تونس. هدر للوقت وطاقة الإنتاج ويعتبر رئيس جمعية إرشاد المستهلك لطفي الرّياحي أن مشاكل النقل في البلاد تؤثر بشكل لافت في واقع الإنتاج والاقتصاد. وأوضح الرياحي في تصريح لبوابة تونس، أنّ “تواصل تأخر وسائل النقل وعدم انتظامها واهتراء أسطولها من شأنه أن ينعكس على إنتاجية العملة الذّين يضطرهم بُعد المسافات إلى استخدام الحافلات أو المترو الخفيف، وفي ذلك هدر لا فقط لأوقات عملهم وإنما لطاقتهم الجسدية وقدراتهم الإنتاجيّة”. كما أشار إلى أن جانب السلامة في تلك الوسائل أصبح مفقودا، فبعض عربات المترو بلا أبواب والحافلات تفتقر إلى الصيانة. وأضاف الرياحي أنّ خطوط القطار السريع ساهمت في التقليص من حدّة الازدحام ومن إشكالات النقل العمومي في تونس لكنها لم تحل المشكل تماما. واعتبر الرياحي أن وزارة النقل عمدت في السنوات الماضية إلى حلول لم تتمكن من القضاء على الأزمة تماما، وإنما ساهمت بشكل طفيف في تحسين الوضع. وطالب في المقابل بإيجاد حلول أكثر نجاعة وطويلة المدى عبر تحسين البنية التحتية واللوجستية للتخفيف من وطأة معاناة التونسيين. كما أشار إلى ضرورة إجراء دراسة يتم عبرها تقسيم أوقات العمل بين الموظفين والعملة والطلبة والتلاميذ بشكل يقلص من الضغط، وخلق انسجام تام بين المناطق الصناعية والأحياء الجامعّية. وأردف أنّ المناطق الصناعية تشهد تجمعات عمال يومية ويكثر فيها الإقبال على وسائل النقل العمومية، وهو ما يتطلّب تواتر رحلات بنسق مستمر لتجنب الاكتظاظ وتقديم خدمات جيدة للمواطنين. تأثير في دورة الاقتصاد من جانبه، يعتبر الخبير في التنمية حسين الرحيلي أنه منذ 1995 تاريخ تطبيق اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بشكل عام وتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي في التسعينات مع صندوق النقد الدولي تم التخلي التدريجي عن كل ما هو عمومي والتوجه نحو خصخصة عدّة قطاعات في إطار فسح المجال وتحويل الخدمة إلى سلعة تباع وتشترى سواء في مجال الصحة والتعليم والنقل”. وأضاف الرحيلي في تصريح لبوابة تونس، أنّ “قطاع النقل شهد تراجعا كبيرا في الاستثمارات سواء على مستوى اللوجستيك أو البنى التحتية أو وسائل النقل إذ تحولت شركات النقل العمومية إلى مواقع للخردة أمام التخلي التدريجي عن دورها”. وتابع: “اليوم لا يمكن إصلاح القطاع بمجرد جلب 300 حافلات من الخارج لأن التقييم يفيد بأن وصول تلك الحافلات في سيقابله إحالة مثيلاتهم على التّقاعد”. وأضاف: “كان حريّا قبل شراء الحافلات تحديد الأهداف المأمولة وطرح أسئلة بينها ما إذا كان هناك تشجيع على النقل الفردي أم النقل الجماعي؟” ولفت حسين الرحيلي إلى أنه ومنذ أكثر من 30 عاما تم منْح تسهيلات للحصول على قروض لاقتناء سيارات خاصة في العاصمة في وقت تشهد فيه بناها التحتية من التقادم والاهتراء. وزاد أنه “في العالم الغربي المتقدم يتم التفكير مليا في النقل الجماعي الذي تكون فيه فوائد على جميع المستويات الاقتصادية البيئية والاجتماعية وبالتّالي وقع الاستثمار في النّقل الجماعي”. وعلى صعيد آخر، اعتبر الرّحيلي أن تونس تعد من أكثر البلدان المتخلفة في مجال النقل الحديدي إذ ما زالت تعتمد على قطارات تتحرك بسرعة 50 كلم/س كأن تقضي 5 ساعات سفر بين تونس وصفاقس. ولفت إلى أن هذه القطارات لم يتم تجديدها منذ فترة الاستعمار الذّي ترك أكثر من ألفي كيلومتر من السكك الحديدية لم يتبقّ منها اليوم سوى 800 كيلومتر مستغلّة. واعتبر الرحيلي أن للنقل العمومي تأثيرا كبيرا على الدورة الاقتصادية فلا يمكن أن يقتصر على المناطق الحضرية، فالتنمية لا يمكن أن تحدث سوى في المناطق التي فيها طرقات سيّارة وموانئ ومطارات انفتاح. وشدد على أنّ النقل العمومي يعاني من أزمة هيكلية تستوجب توفير استثمارات لازمة ووضع برنامج وتصور متكاملين لا يقتصران على مجرّد اقتناء حافلات فقط والإبقاء على البنية التحتية على ما هي عليه الآن.

أضف تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *