لا تُخفي أطروحات عزمي بشارة، وهي ترصد وتُـشخّص مشكلات المجتمع العربي (1)، انحيازها إلى قضايا النهضة والتنوير والعقلانيّة والتحديث والديمقراطية، حين تضع تحت مجهر الفحص والتفكيك، مسائل لا تبدو قدرتها على إعاقة مسار النهضة إلّا عند مواجهتها بالأسئلة المناسبة. ومن تلك المسائل، البحث في علاقة ثقافة “الجمهور” بأداء النخبة على المساعدة في تطوير ثقافة التنوير، وما قد تبديه نخبة المجتمع من شجاعة في مواجهة ثقافة الجمهور السائدة من أجل تغييرها. وما يمكن أن يـَـظهر عليها من تملّق ومسايرة أشكال التخلّف في مجتمع مغلق.
أهم الأخبار الآن:
و”البساطة”، تعني أيضا المتداول كدلالة ثانية، والمقصود منها الثقافة غير العالمة، واللغة دون العلمية وإن كانت ركيكة وضحلة، والحديث دون شروط الدراية والاختصاص، وما لا يكون له ضابط منهجي.
فـ”بساطة” رجل الشارع، الذي منه يتألّف الجمهور، وإن كان حديثه دون رابط، وينتقل كما يقول الفرنسيون “من الديك إلى الحمار”. لن يؤَاخَذ على شيء. فمثل هذا النوع من الكلام يكون دائما مقبولا أو مسموحا به، لأنّه حديث الشوارع والمقاهي ولا يجري في قاعة للدرس أو في ندوة علميّة، فالمجال العام يفسح المجال للمخطىء ويعذر الجاهل ويسمح شرح الفيزيقا وتفسيرها بالمتافيزيقا، ولا يجد أحد من “الجمهور” غضاضة إن هو جمع المختلفات ولم يميّز بين المجالات وخلط بين السياقات.
وحين يَنسِب المرء نفسه إلى كتلة من البشر مستخدما ضمير المتكلم: “نحن”، فإنّه ينقل هويّته من المفرد إلى الجمع ويجعل من تمثيله لشخصه تمثيلا للجماعة التي قد تكون فرقة أو مذهبا أوطائفة أو عرقا أو حزبا. أمّا الخطاب الذي يُوجّه بضمير المتكلم “نحن” فهو خطاب يُغذّي الجَمْعَ، بمشاعر القوّة، ويُقوّي روابط الأفراد بمشاعر الكثرة ويُحوّل الجميع إلى جماعة، ويُكسِبُهم الخطاب الجامع، هويّةً موحّدةً، يُشار في المجتمع السياسي المعاصر إليها بعبارة الـ”جمهور”.
ويدّعي رجل النخبة حين يتملّق الجمهور أنّه يفهمه وأنّه يهتمّ بما يقول ويجده على صوابٍ، وأنّ عليه أن يتعامل مع الجمهور “على قدر عقله”، مع وعيّه أن “عقلَ” الجمهورِ، في هذا السياق لا يتوفّـر على الحدود الدنيا من شروط التفكير العقلي، وهو يتملّقه بتسمية ذلك القدر من “العقلِ” عقلٌ، فيُنصِتُ له موافقا أو منافقا، عساه أن يلتقط ضالته من “الحكمة”.
ويشتق رجل النخبة من فرط انصاته إلى “الجمهور” صفة “الشعبيّ”، التي يستخدمها للتباهي لقربه من “الناس”، دون الالتفات إلى ما يمكن أن تصطحبه صفة “الشعبيّ”، من مسايرة الجهل وما يكرّسه هذا السلوك من تأكيد أنّ مخاطبة الجمهور لا يجب أن تكون بالعقل، لأن الجمهور يحكمه المزاج وتُحرّكُ سلوكَه الحماسةُ.
ويستخلص عزمي بشارة من تشريح فاعليّة “الجمهور” في علاقته برجل النخبة، أنّ الادعاءات المبنيّة على المعلومات الخاطئة وعلى سرعة إصدار الأحكام وتعميمها، والناشئة عن التوقّعات الغرائزية وعن تلك المسكونة بالخوف من المجهول، تشكّل جميعها أساسات ثقافيّة لعقلية جماهيرية صماء، يواجهها رجل النخبة بالقبول وبالحرص على إقناع الجميع بأنّ تلك الثقافة هي “القَــدْر” من “العقلِ” الذي يجب “احترامه” عند التعامل مع “الجمهور”. لكن ما يستوجب التعامل معه حقيقة، هو ذلك التملّق الذي لا يُخفي “رجل النخبة” وراءَه نفاقَــه المقنّع، بل يستبطن في ثناياه قرارا بــتعطيل مهمة النقد التي هي الأصل في جميع أدواره، والجهاز المركزي لجميع آليات اشتغاله.
ويلاحظ عزمي بشارة أنّ النخب المستنيرة في المجتمعات الأوروبية الحديثة، ظلت حريصة، من دون خوف، على تطوير ثقافة تنويرية، من أجل أن تكون لها قاعدة شعبية ممتدة ومؤثّرة ويكون رهانها دفع “الجمهور”، صاحب الثقافة “البسيطة”، إلى الانخراط في التنوير، بما هو وعي وخيار ثقافي راشد حاملا لمشروع حضاري تخوض لأجله هذه النخب المستنيرة معارك للنقد وللنقد-الذاتي. لاسيما أنّ مواجهة تلك الثقافة “البسيطة” وتلك الأفكار “السائدة” كانت في صلب معركة التنوير الأوروبي، وجزءا أساسيّا من ديناميكيتها.
ولا تحتاج حركة التنوير إلى قمع “السائد” ومصادرة حقوقه لكي تسود، بل سيكون عليها أن تصنع رصيدها الجماهيري وتوسّع نطاق تمدّدها الشعبي وتُحصّنه بوعي التنوير. وهي تحتاج أيضا إلى أن تجعل لثقافة التنوير مؤسسات تعليمية ودورا للثقافة ودوائر للبحث والنشر ومراكز لإنتاج الفكر الحرّ ورواجه وتأهيل طُـلاّبِـه، ذلك أنّ قُــدرة أيّ مجتمع على تطوير نفسه وإحداث التغيير المتعيّن، إنّما تعود إلى نخبة لا تهاب مواجهة الجهل والجهالة ولا تخشى التضحيّة بدفع ما يتوجّب، من مال أو من حريّة أو من حياة. فتلك كانت دائما أنواع الضرائب التي يجب على صُنّاع تغيير الأفكار والعادات السائدة، دفعها.
أمّا المجتمعات العربية فما دام الفكر العلمي والعقلانيّ يُحَاصَر، فإنّ المعارك التي تُخاض تحت العناوين السياسية الراهنة لم تتخطّ بعد عتبة النهضة والتنوير وإلّا فكيف لا تُنجِد سلطةٌ سياسيةٌ حديثةٌ و”حداثيّــةٌ” نصر حامد أبو زيد (2) الذي وجد نفسه وحيدا، لا تُسعفه مؤسسةُ قانونيةُ، ولا تنصره مؤسسةٌ جامعيةٌ، بينما تستمر حملات التحريض عليه في صمت “النخبة العالمة” و”المثقفة” ومتحصّنة بما تختلقه لنفسها من أعذار.
ولا يجد رجل النخبة، في مثل هذه “النوازل”، غضاضة في تصنيف معركة كهذه تحت شعار “حريّة التعبير”، بينما هي معركة للدفاع عن العلم ضد الجهل، وللنقد العلمي ضد التسليم العقائدي، فهي معركة نهضة لم تُنجز أهدافها بعد. ورجل النخبة في مثل هذه النازلة، يدرك أنّه يتملّق “الجماهير” ويساير جهالتهم، بينما لا يعبء بمصادرة المؤسسات القانونية والقضائية والشرعية والسياسية لحقوق أساسية تُنتزع من رجلٍ لم يجترح خطيئة، عدا عن كونه، وقد سخّر حياته للعلم والمعرفة والفهم، فَــكَّــر وقــدّر بصورة مستقلة وحُرة.
ويُميّز عزمي بشارة بمناسبة هذه النازلة، بين نضالات حريّة التعبير التي تُــخاض في سياق معارك الديمقراطية، وبين نضالات الدفاع عن العقل التي تُــخاض من أجل تنويرٍ لم يستوف العرب بعد شروطه.
وإذا كان المجتمع هيّأ طريق الترقي الاجتماعي والسياسي، أمام الانتهازي الذي يتملّق الجمهور، ويهادنه و”يأخذه على قدر عقله”، خِشيَة ما قد تواجهه من عواقب. وظلّ يتشاطر في طرح القضايا النظريّة بشكل عقلاني، لكنّه حالما يواجه إغراءات السلطة أوإكراهات المجتمع يفقد عقلانيّته وأخلاقه العلمية، ومروءته ويسقط في مسايرة السائد.
وإذا كان المجتمع في المقابل يجعل من المبدع والمفكر والسياسي شخصا فاشلا، لأنّه خالف مزاج أفراده ولم يوافق هواهم، حين ألزم نفسه الاستقامة والعقل السليم، وواجه المجتمع بما لم تستوعبه عقول أفراده أو تأْلَفه عوائدهم، فلِما تدافع عنه بعض شرائح المجتمع، وما الذي يَمنع أن ترميه بعض طوائفه “بالتعالي” و”التكبّر” والانفصال عن الواقع وعدم مواكبة “عصره”.
تشي العلاقة التي تقوم بين النخبة والجمهور أنّ المجتمع العربي لم يتهيّأ للنهضة بما تستوجب من شروط، وظل يُهدِر ما يمكن أن تسهم به نخبته العالمة من تطوير وتنوير، بينما يستولي “السائد” على وعي الجماهير في صمتٍ وعطالة “النخبة الانتهازية” التي ستسارع بالانخراط في أنظمة التفاهة.
وإذا كان الاجتهاد العقلي أو العلمي في المجتمع العربي، يُعَدُّ ممارسة استثنائية في نطاقة المؤسسة ولدى الجمهور فإنّ النهضة المنشودة ما تزال بحاجة إلى نخبة تدافع عنها، وعيا بحقها في التفكير، بما هي حقوق أساسية غير قابل للتصرّف. ذلك أنّ “الجمهور” ليس معطى جاهزا أو ثابتا إنّما هو فاعليّة عظيمة يمكن استثمارها وتطويعها وإعادة إنتاجها وتوليد ما أمكن من إبداعاتها، كلّما وعت بدورها التاريخي، وأوكل أمر نشر الثقافة العالمٍة بينها، وإشاعتها بين شرائح المجتمع إلى نخبته المستنيرة في معركتها من أجل النهضة.
—————————
(1) بشارة، عزمي ، طروحات حول النهضة المعاقة، دار رياض الرايس للكتب والنشر،2003، بيروت، 276 ص
(2) نصر حامد أبو زيد، 5 جويلية 1943/ 10 جويلية 2010، باحث وأكاديمي مصري، متخصص في الاسلاميات، اتُهم في منتصف التسعينيات من القرن الماضي بسبب كتاباته بالردة والإلحاد. وأصدرت المحكمة مصرية ضده حكما بالتطليق وتفريقه عن زوجته قسراً.
أضف تعليقا