“أيام قرطاج الموسيقية بقيت حبيسة تصوّرات أهلها وانحصار مخيّلة فاعليها”.. فنانون وصحفيون يُصرّحون
صابر بن عامر
أكثر من عقد مرّ على انطلاق مهرجان أيام قرطاج الموسيقية، تحديدا في الـ18 وإلى 25 ديسمبر 2010، أي في ذروة الثورة التونسية.
توقّف إثرها المهرجان لنحو 5 سنوات، مستأنفا نشاطه في الـ14 من مارس 2015 وحتى الـ21 منه، قبل أن تستمرّ فعالياته بشكل سنوي منتظم حتى نسخته العاشرة المُنتهية في الـ24 من جانفي 2025.
مهرجان جاءت أيامه لتحلّ محلّ مهرجان الأغنية التونسية الذي تأسّس عام 1986، والذي تحوّل عام 2005 إلى مهرجان الموسيقى التونسية.
تعدّدت الأسماء والفراغ واحد
وبهذا تندرج أيام قرطاج الموسيقية ضمن حلقة في سلسلة تظاهرات فنية كبرى، تضمّ كذلك أيام قرطاج السينمائية التي انطلقت عام 1966، وأيام قرطاج المسرحية التي تأسّست عام 1983.
وإن حقّقت أيام قرطاج السينمائية وأيام قرطاج المسرحية بعضا من أهدافهما في صيغتيهما السنوية الجديدة (كان قبل 2014 تنتظم بالتناوب مرّة كل سنتين)، فتعدّدت عناوين الأفلام وكذلك المسرحيات واختلفت ثيماتها وأطروحاتها.
كما أفرزت جيلا جديدا من المخرجين والممثلين وصانعي الفرجة بشقيها السينمائي والمسرحي، ممّا أثرى المشهد الثقافي في تونس، فإنّ المولود الثالث، أي أيام قرطاج الموسيقية، لم يأت بجديد.
هذا المهرجان اللغز، الذي تنوّعت استراتيجياته وتسمياته منذ انبعاث نسخته الأولى في عام 1986، من مهرجان الموسيقى التونسية إلى مهرجان الأغنية التونسية في عام 2005.
وصولا إلى أيام قرطاج الموسيقية، الذي انفتح أكثر فأكثر مع تعاقب دوراته على العالمين العربي والإفريقي فالعالمي، أخيرا، أُسوة بشقيقيه السينمائي والمسرحي.. فما الذي تغيّر؟ لا شيء، حتما.
يكفي أنّ المُتابع لا يستحضر لحنا واحدا ولا حتى عنوان أغنية واحدة فائزة بـ”تانيت” المهرجان، قبل أن يتمّ إلغاء المسابقات في السنوات الأخيرة، بل ولا يذكر أيضا اسم فنان واحد من زمرة الفنانين المُتوّجين، على كثرتهم؟
فما الفائدة من وراء مهرجان يستدعي ضيوفه من كل فجّ عميق، ويرصد الميزانيات الضخمة، ويذكّي روح المنافسة بين المُتسابقين بحوافز مادية مُجزية، لتُدرج أغنياتهم بعد ذلك في رفوف النسيان!
بوابة تونس طرحت سؤال: لماذا لم تقدر أيام قرطاج الموسيقية بصيغتها الجديدة من إنتاج أغنية تونسية أو عربية أو حتى عالمية تبقى في الذاكرة؟ على مجموعة من الفنانين والفاعلين الثقافيين والصحفيين، فكان هذا التقرير.
الجليدي العويني: أهداف أيام قرطاج الموسيقية بحاجة إلى فرز وتحديد
عن سؤال بوابة تونس قال الشاعر الغنائي الجليدي العويني، مُستذكرا: “بدأت تظاهرة أيام قرطاج الموسيقية سنة 2010 اقتداء بأيام قرطاج السينمائية والمسرحية في بناء مساحة تواصل شبيهة، أي مع المبدعين الأفارقة والعرب، ولكن هذا الخيار تغيّر بتغيّر الإدارات والمديرين”.
ويُوضّح صاحب كلمات أغنية “كان سلّمت” لعدنان الشواشي: “تمّ التوجه نحو الفضاء الأوروبي المختلط، ما أنتج موسيقات متنوّعة بأشكال وأنماط ومرجعيات مختلفة”.
ويُشدّد العويني: “صناع الموسيقى التقليديون عندنا لم يجدوا سبيلا داخل هذا الخيار، والجمهور الواسع المعتاد على موسيقى المنوعات وأغاني النجوم بدت له هذه التجارب والأشكال المبرمجة في أيام قرطاج الموسيقية غريبة”.
ويُؤكّد: “بقيت الشرائح الشابة من مهتمين ومطلعين ومتذوّقين لهذه الأنماط هي الأكثر إقبالا على العروض، أما الموسيقيون التونسيون من الشباب فقد قدّم الكثير منهم إعادات لأشياء قديمة بمقاربات جديدة، وظهرت الكثير من هذه الأعمال تمارين تطبيقية أكثر منها أعمالا إبداعية”.
ويتساءل صاحب كلمات أغنية “أنا عاشق يا مولاتي”: “في الأثناء يبقى السؤال: هل تمّ تحقيق غاية البداية في بيان الأيام، وترويج الإنتاج الموسيقي عالميا بروحه الأصيلة؟ أم أنّ التجارب اتّجهت إلى تطويع الموسيقى التونسية إلى قوالب غربية أفقدتها لهجتها، ولم تحققّ لها ما طمحنا إليه من انتشارها؟”.
ويسترسل: “لا بد من الإشارة أيضا إلى أنّ موسيقانا مبنية أساسا على الأغنية والمغني الفرد، وهو ما قلّلت منه التظاهرة، فوجدنا في الأخير تظاهرتين موسيقيتين منفصلتين، هما الأيام الموسيقية ومهرجان الأغنية التونسية، بأهداف في حاجة إلى فرز وتحديد”.
خامس الذوادي: للإعلام دور في خفوت وهج أيام قرطاج الموسيقية
عن مدى قدرة المهرجان على الولوج إلى الذائقة التونسية من عدمه، وهل يعود ذلك إلى تقصير إعلامي من القائمين عليه، أم أنّ ذائقة التونسي تغيّرت في زمن “الراب” وثقافة “الأندر غراوند”، فما عادت الأغاني الوترية الكلاسيكية تُغريه؟
يقول الفنان خامس الذوادي، مُجيبا عن سؤال بوابة تونس: “الفن والموسيقى والغناء هي مجالات جمالية تتعلّق أساسا بالذوق”.
ويسترسل: “في أيامنا هذه لم يعد الفنان سواء كان موسيقيا أو مؤدّيا يُعنى بالذوق في اختيار الألحان أو الكلمات”.
في المقابل، يُؤكّد الذوادي، أنّ كبرى شركات الإنتاج العربية والعالمية تولي اهتماما كبيرا بالذوق في اختيار الفنان (الكاستينغ) في شكله وحضوره وتعبيره وإلقائه.
ويضرب في ذلك مثل الفنانين اللبنانيين، الذين يحسنون انتقاء الأغاني، فتروق للجمهور التونسي ومن ثمة العربي، رغم عدم اقتناعهم بصوت الفنان.
ويُشدّد الفنان التونسي على أنّ نجاح الأغنية اللبنانية في هذه الحالة يعود إلى الانتقاء الجيّد للأغنية الناجحة للفنان المزمع انتشاره، وهي مهمة يتكفّل بها فريق كامل مهمّته تغيير مزاج المُشاهد قبل المستمع وفق موضة هم واضعوها.
ويلوم الذوادي في هذا الخصوص التقصير الإعلامي في النهوض بأيام قرطاج الموسيقية والتعريف به محليا وعربيا.
ويتساءل: “ما ضرّ لو واكبت القنوات التلفزيونية حفلات أيام قرطاج الموسيقية، سيما أنها في معظمها تقام في الظهيرة، حيث لا مادة تستحقّ البث، عدا بعض الإعادات لمجموعة من المسلسلات المكرّرة؟”.
ومن ثمة، يقول الذوادي، “تُساهم القنوات التلفزيونية وأيضا الإذاعات في التعريف بالفنانين والموسيقيين الشبان، وتدويلهم، عوض أن تُقبر أعمالهم مع نهاية كل مهرجان”. وهو في ذلك، لا يرى فائدة تُرجى من هكذا مهرجانات وما رُصد لها من ميزانيات، طالما ظلّ مُبدعوها وفنانوها مغمورين.
عماد عزيز: رموز الأغنية التونسية لدى الجيل الجديد انحسرت في فناني الراب
بدوره يذهب الفنان التونسي عماد عزيز إلى ما ذهب إليه زميله خامس الذوادي، مؤكّدا أنّ: “الإعلام السمعي والبصري من أهمّ أسباب تدهور وتراجع الطابع التونسي، بشكل خاص والأغنية التونسية بشكل عام”.
ويستدلّ في ذلك، بنموذجَي الجزائر والمغرب اللذين يعملان على نشر موسيقاهما حتى في المطارات، فلا تسمع سوى الأغاني الجزائرية والمغربية، ترسيخا لافتخارهما بهويتهما وثقافتيهما الوطنيتين.
في المقابل، يستنكر عزيز، ما تبثّه الإذاعات والتلفزيونات التونسية على مدار اليوم، من أغان شرقية وغربية وراب بنسب تتجاوز أحيانا الـ80%، وفق تقديره.
وهي إلى ذلك تقوم باستدعاء الفنان التونسي الأصيل لـ”تقزيمه” والتقليل من شأنه بدعوى ثقافة “البوز” (الإثارة)، وفق تصريح عزيز لبوابة تونس.
كما يستنكر صاحب أغنية “الله يا عالي”، الدور السيّئ لمواقع التواصل والمنصات عبر تمريرها لموسيقات وثقافات، لا تمتّ لا من قريب أو بعيد إلى عادات التونسي وتقاليده، فارضة على الجمهور أشباه الفنانين وموسيقاهم الرديئة.
ويختم تصريحه لبوابة تونس بقوله: “أنا شخصيا أستاذ موسيقى، درست ودرّست في المعاهد التونسية لأكثر من عقد، واكتشفت خلال العشرية الأخيرة، أنّ الوضع الموسيقي التونسي بات كارثيا، فالجيل الجديد لا يعرف عن رموز الأغنية التونسية وطبوعها، سوى الراب لا أكثر”.
ناجح مبارك: الأغنية التونسية ظلّت أسيرة السجن الأكاديمي
تأكيدا للطرح الذي ذهبت إليه بوابة تونس، يقول الصحفي ناجح مبارك: “تعدّدت التسميات والمسمّيات للتظاهرات الموسيقية في تونس من مهرجان الأغنية إلى مهرجان الموسيقى، وصولا إلى أيام قرطاج الموسيقية، لكنها لم تنتج أغانيَ بقيت في ذاكرة المتلقي الداخلي، فما بالك بالمتلقي العربي؟”.
ويسترسل: “الفنانون الوتريون هم المسيطرون تاريخيا على المهرجان والتظاهرات الموسيقية، وحتى الأغاني “الخالدة” التي أنتجها الفنانون الوتريون، لم يتمّ بثها خارج مهرجان الأغنية أو أيام قرطاج الموسيقية”.
ويستشهد في هذا الخصوص بأغنية “صرخة” المتوّجة في مهرجان الأغنية التونسية عام 1996، والتي كتب كلمتها حاتم القيزاني ولحنها الراحل محمد علام.
لكنه، يُقرّ، أنّه ورغم نجاحها الجماهيري المحلي، لم يتمكن صاحبها الفنان صابر الرباعي من نشرها عربيا، رغم تعدّد حضوره في العديد من المهرجانات العربية على غرار جرش ومراكش والقاهرة، لأسباب، قال إنّه يجهلها.
ويُشدّد مبارك على أنّ سيطرة “السلفية الوترية الموسيقية” على تسيير أمر المهرجان تجعل آليات العمل والاشتغال على الجديد، وولوج عالم الموسيقى الحديثة صعبا.
ويستدلّ مبارك بقوله: “وزيرة الثقافة الحالية أمينة الصرارفي موسيقية التكوين والممارسة، ومثلها كان محمد زين العابدين، وكلاهما تكونيه الموسيقي كلاسيكي، الأمر الذي غلب على توجّهاتهما، فلا يمكن لهما إلّا مسايرة السائد وترسيخه”.
وهو في ذلك يرى أنّ الفنانين والموسيقيين الشبان من خريجي المعاهد العليا للموسيقى، لن يتمكنّوا من مخالفة السائد، فينخرطون في تقديم منتوج بمواصفات معينة وحسب قوالب جاهزة مألوفة ومتعارف عليها، لينالوا بها الجائزة المرجوّة لا أكثر.
ويوضّح: “فالفنان ذاته لا يفكّر في تأمين انتشار عربي وعالمي لمنتوجه المتوّج، لأنه يبحث عن شرعية داخلية أكاديمية تمكّنه من الولوج في خيوط خارطة دعم الوزارة وبرمجته في مهرجاناتها”، وفق توصيفه.
ويخلص ناجح مبارك إلى أنّه “رغم المجهود الرامي إلى الانفتاح على ألوان موسيقية حديثة في مهرجان أيام قرطاج الموسيقية، وعلى خلاف المسرح والسينما، بقيت الموسيقى التونسية بأصواتها الجيدة حبيسة تصوّرات أهلها وانحصار مخيّلة فاعليها”، وفق تقديره.