سؤال إنكاري يتكرّر: “كيف نموّل الفنّ ونحن بحاجة إلى الخبز؟” الإجابة تأتي من المهرجان الدولي للمونودراما بتطاوين.. “عمّروا الأسواق والعقول أيضا”
صابر بن عامر | تطاوين – بوابة تونس
أهم الأخبار الآن:
في الجنوب التونسي، بين تضاريس الصخر والرمل، لا يصدح صوت الريح فقط، بل يعلو صوت المسرح أيضًا. مهرجان المونودراما الدولي الذي يُقام في تطاوين في الفترة الممتدّة بين السادس والتاسع من ماي الجاري ليس مجرّد حدث فني، بل تجربة جماعية تُعيد تعريف العلاقة بين الثقافة والتنمية والمدينة.
يأتي المسرح، تحديدا المونودراما، ليخلق موسمًا استثنائيًا من الحياة: تتزيّن النزل، تنتعش المقاهي، تزدحم السوق التقليدية، وتُفتح أبواب البيوت لاستقبال الزوّار من تونس وخارجها.
الحدث الثقافي، رغم تواضع إمكانياته، ينجح في تنشيط الدورة الاقتصادية محليًا، وفي ضخّ جرعة من الاعتراف الرمزي بمكان ظلّ لعقود على هامش المركز، وهنا تحديدا تبدأ الحكاية..
اقتصاديات المهرجانات.. عندما تتحوّل الثقافة إلى رافعة تنموية
في زمن تُعاني فيه الدول من أزمات اقتصادية وبطالة مُتفاقمة، يبدو تمويل المهرجانات الثقافية أمرًا ثانويًا، بل مُستفّزًا في نظر البعض.
يتكرّر السؤال: “كيف نموّل الفنّ ونحن بحاجة إلى الخبز؟”، مُتناسين أنّ الاقتصاد لا يُختزل في الغذاء فقط، بل يشمل أيضًا ما يُمنح المجتمعات طاقة من البقاء والتجدّد.
عن ذلك يقول إكرام عزوز مدير ومؤسّس المهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج الذي اختار القائمون عليه أن تحتضنه هذا العام ولاية تطاوين: “المهرجانات الثقافية اليوم لم تعد ترفًا ولا مجرّد تظاهرات فنية للاستهلاك اللحظي، بل أصبحت أدوات حقيقية للتنمية المحلية”.
ويُضيف عزوز في تصريحه لبوابة تونس: “في تطاوين، نرى بأمّ أعيننا كيف يتحوّل أسبوع من المسرح إلى حركة اقتصادية تشمل كل شرائح المجتمع: من الحرفي الصغير إلى صاحب النزل، من سائق التاكسي إلى صاحب المطعم. الاقتصاد الإبداعي ليس نظرية في كتاب، بل هو واقع نعيشه”. ويُشدّد المسرحي التونسي: “مهرجان المونودراما هو أيضًا رسالة: الثقافة قادرة على إحياء الجهات المنسيّة، وتحويل الفنّ إلى خبز وكرامة وإبداع”، وفق توصيفه.
فالثقافي والفني والدرامي -الكلام دائما لإكرام عزوز- إمّا أن يكون قاطرة تنمية أو لا يكون، وبالأساس في العلاقة بالمواطن لا السلطة، فالسلطة تجد راحتها قولا في الإيمان باللامركزية الثقافية، لكن عمليا فكلّ الراحة في التمركز، وقالوا ناس بكري (اللي بعيد على العين بعيد على القلب)”،
كل مهرجان هو منظومة اقتصادية مؤقّتة، تخلق حركة تشغيل واستهلاك سريعة ومركّزة.
منذ الإعلان الأول، تنطلق عجلة توظيف العشرات في التنظيم، والخدمات التقنية، والنقل، والأمن، والإعلام.
تتبعها موجة طلب على الإقامة، والمطاعم، ووسائل النقل، والتسوّق المحلي.
ويُغادر الزوار وهُم يحملون صورة ذهنية إيجابية عن المدينة، ومُحمّلين أيضا بـ”شاش صحراوي”، أو “بلغة”، أو “جبّة” نسائية أو رجالية، وحتما بصناديق محمّلة بـ”قرن الغزال”.. ما يُحوّلهم إلى سفراء غير مباشرين للسياحة والثقافة المادية واللامادية للجهة.
اقتصاديًا، الإنفاق على مهرجان لا يخرج من الدورة المالية، بل يُعاد ضخّه محليًا، في ما يُعرف بـ”الأثر المضاعف”: الدولة تدفع لمنظّم، يشتري من حرفي، ينفق بدوره في السوق، فتنتعش الدورة.
هذا هو جوهر الاقتصاد الثقافي، حيث يتحوّل كل دينار إلى سلسلة من الأرباح المحلية المتداولة.
وفي تصريح لبوابة تونس يقول ناجي بوكريع الفاعل السينمائي وأصيل تطاوين: “باعتباري واحدا من أبناء تطاوين، أعرف تمامًا ماذا يعني أن تتحوّل مدينتك إلى وجهة فنية”.
ويُضيف: “المهرجانات المختصّة على غرار المونودراما ليست فقط فضاءً للعرض، بل مساحة لتحريك عجلة الحياة. في أسبوع المهرجان، تتحوّل المدينة إلى ورشة نابضة: الفنادق تمتلئ، الورش تُقام، النقاشات تُفتح، والمواهب تخرج من الظل”.
ويسترسل: “هذا هو الاستثمار الحقيقي في الجهات.. أن نجعل من الثقافة محرّكًا اقتصاديًا، نحن لا ننتظر الصدقات، نريد فقط الفرصة لنُبدع ونعيش بكرامة، من ترابنا، ومن فنّنا“.
لكنّ النجاح، أيّ نجاح لمهرجان ما، لا يرتبط بالصرف فقط، بل بكيفية بناء المهرجان.
عندما يرتبط الحدث بثقافة المكان، ويُشرك فنانين وحرفيين ومهنيين محليين، يصبح مصدر دخل، ومنصّة ترويج، وأداة لبناء هويّة اقتصادية مستدامة.
أما حين يكون المهرجان مجرّد حفل معزول عن محيطه، فهو ضوضاء عابرة لا تترك أثرا.
الاقتحامات الفنية نموذجا.. حكواتيون وفنون الشارع
في قلب مدينة تطاوين، حيث تُصافح الشمس جدران المركب الثقافي بشغف، سجّل يوم الخميس 8 ماي 2025 لحظة استثنائية من لحظات الفنّ المتحرّك والملتزم، مع اقتحام جديد في سلسلة الاقتحامات الفنية لنزار الكشو، الذي ما فتئ يُعيد رسم حدود المسرح، لا بالحواجز بل بفتحها على أفق المواطنة.
في تمام الساعة 11:30، انطلق الاقتحام الفني رقم 117 بعنوان “أشلاء المسافة 0.579″، كصرخة جسدية ونصّ حيّ بين ردهات المكان، تزامنا مع انتظار العرض الفلسطيني “هبوط مؤقت”.
كان هذا الاقتحام أكثر من فعل مسرحي؛ كان فعلًا ثقافيًا مُقاومًا، يزرع الجسد وسط الفراغ ويحوّله إلى ساحة حوار رمزي، كأنّ نزار الكشو يُعيد تشكيل المسافة بين الفنّ والمجتمع بنسبة دقيقة من الجُرأة، سيما الأطفال-التلاميذ وما يعنه ذلك من بناء مشروع متفرّج واع وبذائقة جمالية راقية بالتراكم.
ارتبط هذا الاقتحام بثقافة القرب لا على مستوى المسافة فحسب، بل على مستوى الحسّ الجماعي، حيث يتماهى الممثل مع المواطن، في فضاء مفتوح يقلب المعادلات التقليدية للأداء ويمنح المشاهد سلطة المشاركة والانفعال. إنّها فلسفة نزار الكشو المسرحية، التي تستند إلى الاقتصاد الرمزي للحركية الثقافية، حيث يتحوّل “الفعل الفني” إلى “رأسمال اجتماعي”.
يدفع بالأطفال واليافعين والشباب المتعطّشين للمسرح إلى طرح الأسئلة حول دورهم في إنتاج المعنى، وفي التفاعل الحيّ مع قضاياهم اليومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، قضيتنا الأم.
بالمثل كان حضور الحكّائين والحكّاءات بالمدارس الابتدائية والإعدادية بجميع معتمديات ولاية تطاوين مُترامية الأطراف من بير الأحمر مرورا بقصر حدادة وصولا إلى الذهيبة، إشباعا لخيال الأطفال وأحلامهم، وتفعيلا لطموحات اليافعين وانتظاراتهم، وتكريسا لتمرّد الشباب على السائد والمُعتاد بوعظ ما قاله الأجداد بعيدا عن الإملاءات والاكارهات والوعد والوعيد.
النماذج الثقافية الناجحة الرافعة والدافعة للاقتصاد والتنمية واضحة: مهرجان الموسيقى الروحية في فاس المغربية نقل المدينة إلى خارطة السياحة العالمية، ومهرجان أفينيون حوّل مدينة فرنسية صغيرة إلى عاصمة مسرحية، وخلق آلاف فرص العمل الموسمية، وغيرهما الكثير..
الاستثمار في الثقافة ليس ترفًا، بل هو خيار اقتصادي ذكيّ. المهرجانات تحرّك الأسواق، تُعيد توزيع الدخل، وتُجدّد الحياة في المدن الراكدة.
الاقتصاد لا يُبنى فقط بالإسمنت، بل بلحن، أو نصّ، أو مشهد فوق خشبة، يُشعل الحركة خلف الستار وأمامها وعلى جنباتها..
والمهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج الذي ارتأى منذ نسخته السادسة دمقرطة الفعل المسرحي في كل الولايات والجهات من نابل في 2024 وتطاوين 2025 وقفصة العام القادم والذي يليه ويليه في مُدن أحلام أخرى.. جعل وسيجعل من الولايات الحاضنة للفعاليات ملهاة فنية وملاذا اقتصاديا للمنطقة وأهلها.
وكما يُقال في السينما “سكوت.. نُصوّر”، يقول المهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج على طريقته الخاصة “صخب.. خيال.. أحلام.. تدور وتدور”، فما يزال للسحر في وطننا، رغم البعض من أوجاعنا، حضور.
أضف تعليقا