“المنصات مكنت الفنانين التونسيين من نشر أغانيهم دون الحاجة إلى وسطاء أو شركات إنتاج كبرى، لكن الجهد ما يزال منقوصا”.. فنانون وموسيقيون يُصرّحون
صابر بن عامر
زمن الديجيتال، هو العنوان الأبرز للألفية الثالثة التي نعيش، منصات وشبكات عنكبوتية منتشرة بشكل تسونامي على مواقع التواصل، غيّرت من اهتمامات الناس وانشغالاتهم اليومية، بل حتى ذائقتهم الجمالية..
فهل ساهمت التكنولوجيا الحديثة في انتشار الأغنية التونسية خارج حدود الوطن؟
ولماذا اقتصر الأمر على فن الراب، في حين ظلت الأغنية الوترية حبيسة محليتها؟ وما الذي يُعيق انتشارها الكلمة أم اللحن، والحال أن أغاني الراب أكثر تعقيدا من حيث اللفظ من نظيرتها الشعبية أو الوترية على السواء؟
مجموعة من الأسئلة طرحتها بوابة تونس على ثلة من الفنانين والمُشتغلين على القطاع الموسيقي في تونس، فكان هذا التقرير.
فؤاد بالشيخ: المنصات الرقمية أزالت الحواجز الجغرافية أمام الأغنية التونسية.. لكن!
عن ذلك يقول المطرب التونسي فؤاد بالشيخ: “بلا شك، سهّلت المنصات الرقمية على غرار يوتيوب وسبوتيفاي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي وصول الأغنية التونسية إلى جمهور عالمي بعيدا عن القنوات التقليدية”.
وهو يراها أزالت الحواجز الجغرافية، وأتاحت للفنانين نشر أعمالهم بأنفسهم دون حاجة إلى وسطاء أو شركات إنتاج كبرى، وفق تقديره.
وحول قدرة فن الراب على الانتشار بشكل أسرع من الأغنية الوترية على هذه المنصات، شدّد صاحب أغنية “وصية أم” على أنّ ذلك يعود إلى كون طبيعة الراب ترتكز على الرسالة القوية والكلمات الجريئة التي تلاقي صدى واسعا بين الشباب في العالم العربي وخارجه.
فالراب -وفق بالشيخ- يعتمد على الإيقاع السريع والمواضيع الاجتماعية والسياسية، ما يجعله محرّكا للمناقشات ويشجّع المستمعين على مشاركته والتفاعل معه.
في المقابل، يرى صاحب أغنية “الحطّابة” أنّ الأغنية الوترية التقليدية تعتمد على الطرب واللحن الرومانسي والعاطفي، في افتقار إلى عنصر الجدة أو المفاجأة المطلوبة لجذب جمهور عالمي يبحث عن صيحات جديدة.
كما يرى أنّ العامل اللغوي ليس العائق الوحيد، فالكلمة في الراب قد تكون معقّدة، لكنها تصل مباشرة إلى المتلقّي عبر الإيقاع والبيت القويّ.
أما الأغنية الوترية، فالكلمات فيها غالبا شاعرية ومجازية، وقد يصعب على المستمع غير العربي استيعابها والتفاعل معها، وفق تصريح بالشيخ لبوابة تونس.
أما اللحن الوتري، فيراه المطرب التونسي جميلا، لكنه ينتمي إلى ثقافة محلية أصيلة يصعب نقلها خارج سياقها التاريخي والاجتماعي.
ويوضّح: “فضلا عن ذلك، إنتاج الأغنية الوترية يتطلّب أستوديوهات متخصّصة وآلات موسيقية تقليدية وفنانين محترفين، بينما يمكن إنتاج أغنية راب بجهاز حاسوب وبرنامج بسيط”.
ولا يُخفي بالشيخ أنّ الجانب التسويقي للراب أكثر فعالية، إذ يستخدم الفيديوهات القصيرة على تيك توك وإنستغرام لجذب الانتباه بسرعة.
كما أنّ الراب يُعبّر عن هموم جيل الشباب العالمي، كالبطالة والظلم الاجتماعي والهوية، فأتت رسالته عالمية رغم خصوصيته التونسية.
في المقابل، يرى بالشيخ، أنّ الأغنية الوترية تبقى مقصورة على جمهورها المتمسّك بالقيم التراثية والموسيقى الطربية، ما يقلّل فرص انتشارها عالميا.
كما أنّ الألحان الوترية تعتمد على مقامات موسيقية شرقية لا يلمّ بها جمهور واسع خارج الوطن العربي، ما يحدّ من قابليتها للاستهلاك الدولي، وفق محدّثنا.
ويخلص فؤاد بالشيخ في ختام تصريحه لبوابة تونس إلى أنّ المنصات الحديثة قدّمت الفرصة إلى الراب التونسي ليتفوّق في الانتشار، بينما الأغنية الوترية تحتاج إلى استراتيجيات ترويجية وتبسيط للحن والكلمة لتتجاوز حدود الوطن.
وهو يدعو الفنانين الوترين إلى الابتكار في الدمج بين الطرب الشرقي والأنماط العالمية، مع ضرورة توظيفهم المنصات الرقمية بشكل أوسع، حتى تستعيد أغانيهم حضورها خارج الحدود.
الجليدي العويني: الديجيتال في الأغنية اختيار الضرورة المتّسق مع إملاءات المعاصرة
في المقابل، يرى الشاعر الغنائي الجليدي العويني أنّ النقلة الرقمية فاجأت المشتغلين بالأغنية الوترية التقليدية.
وفي ذلك يقول: “الوتريون لهم عادات تحوّلت إلى إعاقات، فأبناء جيلي مثلا، تعوّدوا نشر أغانيهم من خلال الإذاعة والتلفزة ثم شرائط الكاسات، وبعدها بدرجة أقل الأقراص الليزرية أو ما اصطلح على تسميتها بالفرنسية بـCD (سي دي”.
ويفسّر كاتب أغنية “سلطان حبك” لأمينة فاخت طرحه، بقوله: “فجأة تراجعت هذه المحامل وبرزت المنصات التي لا يحسن أغلبنا التعامل معها، وظهرت كأنها عالم غريب لا يمكن اقتحامه”.
ويُواصل: “وبما أنّ المؤسّسات ذات العلاقة بالأغنية لم تقترح دورات تكوينية، وبما أنّ المغنين لم يتعوّدوا على العمل مع فريق، فالكثير منهم لم يلجأ إلى من بإمكانه أن يُرافقهم ويُساعدهم على تخطّي عتبة المنصات حصل المأزق، بل إنّ الكثير منّا اسْتعملت أغانيه في تلك المنصات من قبل أطراف أخرى لا علاقة لها بالأمر، ونالت الغنائم التي تُقدّمها الشبكة دون علم أصحاب العمل الحقيقيين”.
وفي ذلك يرى أنّ الزمن لآن بات مُتاحا لما أسماه “جيل جديد من المغنين مرحلة أغنية المنصات”، وفق تصريحه لبوابة تونس..
في حين أن مغنّيي الراب والصلام منذ بداياتهم كانوا على اتصال بالمنظومة العالمية، فالكثير من إنتاجاتهم تعتمد في موسيقاهم على ما يقتنونه من مواقع إلكترونية، ويضعون على تلك الموسيقى نصوصهم التي ألّفوها.
ومن ثمة، فإنّ ارتباطهم وتعاملهم مع منظومات خارجية، لفت اهتمامهم منذ البداية للمنصات الرقمية، وفق العويني.
ويستطرد واضع كلمات أغنية “آش جاب رجلي للمداين زحمة” لعدنان الشواشي: “سيما، أنه قبل 2011 لم يكن لهم حضور في المنابر التقليدية كالإذاعة والتلفزيون والكاسات.. ولذلك كان اعتمادهم المبكّر على الديجيتال اختيار الضرورة الذي توافق مع اختيار المعاصرة.
محمد عليبي: التسويق المُمنهج أعاق وصول الأغنية الوترية التونسية إلى العالمية
أما متعهد الحفلات محمد عليبي، فيُشير إلى أنّ الحديث عن مدى مساهمة المنصات والتكنولوجيا الحديثة في انتشار الأغنية التونسية خارج حدود الوطن، يبقى من باب التخمينات والتعاليق غير المدعّمة.
وذلك وفق تصريحه لبوابة تونس: “نتيجة غياب الأرقام والنسب المئوية”.
ويُواصل متعهّد الحفلات التونسي المُقيم في فرنسا: “وإذا افترضنا أنّ الراب هو الذي طغى على كل أنواع التعابير الموسيقية الأخرى، فهذا يرجع إلى انعدام الذوق السليم لدى المُستمعين والمُشاهدين، زائد البروباغندا المدروسة في تسويق الراب من قبل موزّعي هذا الكلام.. إذ أنّ الراب كلام وليس غناءً عبر العالم”، وفق توصيفه.
ويرى عليبي أنّ فن الراب طغى على الأغنية الوترية، بل وكاد يقضي عليها.
ويعزو ذلك إلى العدد المهول لمُستهلكيه الشبان الذين يجدون فيه ضالتهم، لكونه يتعدّى المحظور على مستوى الألفاظ المستعملة، والتي تحتوي، أحيانا، على كلمات سوقية وحتى إباحية.
ومع ذلك، يُقرّ عليبي أنّ المنصات والتكنولوجيا الحديثة، على غرار يوتيوب وسبوتيفاي وتيك توك ساهمت في فتح آفاق جديدة أمام الأغنية التونسية وجعلها أكثر قدرة على الوصول إلى جمهور عالمي.
لكن اللافت أنّ هذا الانتشار -وفق محدثنا- طال أساسا لونا موسيقيا بعينه، وهو الراب، فيما بقيت الأغنية الوترية رهينة فضاءها المحلي، وفق تقديره.
ويُعدّد أسباب ذلك، إلى أنّ الراب بطبيعته يتماشى مع الثقافة الرقمية الجديدة، سواء من حيث الإيقاع السريع أو المواضيع الآنية التي يطرحها، إضافة إلى حضوره القويّ على وسائل التواصل الاجتماعي.
كما أنّ الراب التونسي، رغم تعقيد كلماته، يتضمّن طاقة تعبيرية ولغة جريئة قادرة على كسر الحدود الثقافية، وجذب الشباب من مختلف البلدان.
في حين يرى عليبي في الأغنية الوترية، رغم جماليتها وثراء ألحانها، بقيت تُعاني محدودية التطوير والتجديد، كما أنّ الكلمة فيها غالبا ما تكون ذات خصوصية لغوية وثقافية لا يسهل ترجمتها أو تذوّقها خارج السياق التونسي.
فالعائق إذا -والكلام لعيبي- ليس في الكلمة أو في اللحن فقط، بل في ضعف الترويج، وانعدام الرغبة في التجريب والخروج من القوالب التقليدية، إلى جانب غياب إستراتيجيات رقمية لدعم هذا اللون الموسيقي.
ولتحقيق انتشار أوسع لها، يرى محمد عليبي، أنّ الأغنية الوترية التونسية تحتاج اليوم قبل أيّ وقت مضى إلى مغامرة فنية جديدة، تُدمج فيها الأصالة مع المعاصرة، وتُبنى على فهم عميق لآليات الانتشار الرقمي الحديثة.
درصاف الحمداني: للمؤثرين دور في انتشار الأغنية التونسية عربيا وعالميا
في المُقابل تُؤكّد المطربة التونسية درصاف الحمداني، أنها لاحظت في الفترة الأخيرة، ومن خلال المنصات الحديثة اهتمام العالم بتونس وثقافتها.
وتسترسل في تصريحها لبوابة تونس: “وعندما نذكر الثقافة تكون الموسيقى ضمن المادة التي تنشرها فيديوهات بعض المؤثرين في مجالات السياحة، كالمطبخ التونسي أو ما إلى ذلك”.
وكلّ هذا، وفق مديرة أيام قرطاج الموسيقية، هدفه التفاخر بانتمائهم لهذه الثقافة من ناحية، ولأن تونس صارت كذلك وجهة للعديد من الأجانب للاستقرار والعيش، من ناحية أخرى”.
وتوضّح: “حتى أنهم صاروا يتقنون اللهجة التونسية، والأمثلة على ذلك عديدة، سواء كانوا فرنسيين أو كوريين أو مشارقة”.
ومن ثمّة، يكوّنون عائلة، ويعلنون استقراهم نهائيا ببلدنا، مُتبنّين الثقافة التونسية التي لا يفهمها إلّا أبناء تونس، انطلاقا من طريقة الكلام وصولا إلى بعض الأكلات التي تخصّ تونس، وفق الحمداني.
وتعلّل الحمداني طرحها، بقولها: “كلّ هذا يحدث عبر تمريرهم للأغنية والموسيقى التونسية من خلال ثقافة كاملة شاملة تتأثّر فيها الحواس المُختلفة، وتُؤثّر بدورها في المتلقّي لفيديوهاتهم و”ريلاتهم” القصيرة”.
وترى صاحبة أغنية جينيريك مسلسل “يوميات امرأة” أنّ الراب فتح باب الانتشار، وقريبا الأغنية الوترية والشعبية ستثير الجدل وسيهتمّ بها أهل الاختصاص، وفق تقديرها.
لكنها في المقابل، تُؤكّد أنّه دون مُساعدة ترندات المؤثرين و”البلوغرز” على غرار يسر التونسية واجتهادها في صنع ترند تونسي انتشر انتشارا واسعا في شبكة التواصل الاجتماعي، فإنّ ذلك لن يحدث إلّا بنسق بطيء.
ماهر الهمامي: على الفنانين الوتريين تجديد أدواتهم لنشر أغانيهم خارج تونس
بالتوازي، يرى ماهر الهمامي أنّ المنصات الرقمية والتكنولوجيات الحديثة أسهمت بشكل كبير في نشر الأغنية التونسية خارج حدود الوطن.
وذلك من خلال إتاحة الفرصة للفنانين لنشر أعمالهم دون الحاجة إلى وسطاء أو شركات إنتاج كبرى.
ويوضّح نقيب المهن الموسيقية بتونس: “أصبح بإمكان أيّ فنان أن يطرح أغنيته على يوتيوب، أو سبوتيفاي أو تيك توك، ليصل إلى جمهور واسع ومتنوّع في وقت وجيز”.
وهو يرى أنّ هذا الانتشار شمل بدرجة أولى أغاني الراب، التي فرضت نفسها بقوة داخل تونس وخارجها، في حين بقيت الأغنية الوترية محصورة داخل نطاقها المحلي، وفق تقديره.
ويعزو الهمامي ذلك إلى قدرة فن الراب على التفاعل مع الواقع، وجرأة مواضيعه، ممّا يجعله قريبا من اهتمامات الشباب العربي والمغاربي.
في حين ظلّت الأغنية الوترية، على الرغم من جمال ألحانها وثراء معانيها، سجينة نمط تقليدي كلاسيكي.
ويُضيف: “ويُقال عنها إنّها لا تتماشى مع متطلبات العصر، خاصة في الشكل البصري للأغنية، كما أنّ استعمال اللغة الفصحى أو اللهجة المحلية الثقيلة قد يكون عائقا أمام فهم المستمع غير التونسي لها”.
ومع ذلك يُشدّد نقيب الموسيقيين التونسيين على أنّ كلمات الراب التونسي ليست دائما سهلة، بل هي في الغالب معقّدة ومشحونة بالإيحاءات، ومع ذلك تلقى صدى وانتشارا.
وفي ذلك يخلص إلى أنّ “المسألة لا تتعلّق فقط بالكلمة أو اللهجة، بل بكيفية تقديم الأغنية، وروحها، ومدى قدرتها على لمس مشاعر المُستمع وجذب انتباهه”، وفق تصريحه لبوابة تونس.