قبل سنوات روى لي زميل صحفي تونسي مغترب قصة طريفة عن احتجازه في مطار موسكو لما يزيد عن ساعتين، والسبب ثلاث كيلوغرامات من الملوخية عبأها في حقائبه عند العودة إلى بلاد المهجر.
قد لا يصدق البعض القصة، لكنها حدثت بالفعل بعد ارتياب عناصر الشرطة الروس في كيس الملوخية المطحونة بطريقة ناعمة على الطريقة التونسية، ما دفعهم إلى إرسال عينة منها للفحص، بعد أن أثارت رائحتها ولونها الاستغراب والريبة، رغم محاولات صاحبنا شرح خصوصياتها الغذائية.
لم يستطع ضباط أمن المطار أن يكبحوا ابتسامة واسعة من طرافة الموقف عندما تبينوا حقيقة الملوخية، مرفوقة بتساؤلات عن سر عشق التونسيين لهذه المادة إلى درجة الحرص على التزود بكميات منها عند السفر، ومغادرة البلاد.
ما لا يدركه الروس بحكم ثقافتهم الغذائية المختلفة هي أن الملوخية “طبق توافقي” على المائدة العربية باختلاف العادات، والتقاليد بين الأقطار، فالتسمية واحدة وإن اختلفت مقادير التحضير، والوصفات من بلد إلى آخر، لتترجم رابطا وجدانيا، وعشقا قاطبًا لهذه الأكلة.
طبق شعبي بوصفات متنوعة
تشتهر الملوخية بقوامها الأخضر الداكن، أو الأسود عند إعدادها حسب طريقة الطبخ، ورائحتها النفاذة المحببة الممزوجة بعبق البهارات.
ورغم تنوع طرق طبخها، إلا أن أسلوب تهيئة الملوخية، وحبكتها تترجم عبقرية المطبخ العربي، وإبداعه في استخراج أجمل خصائص هذه النبتة، ومزجها مع توليفة من المقادير الأخرى تشمل الأفاويه، والمكونات المتنوعة، لإعداد وجبة مميزة تحولت إلى أكثر الأطعمة شهرة في المشرق، والمغرب العربي على حد سواء.
يكمن سر هذا الطبق الشعبي الرائج على امتداد الوطن العربي، من خليجه إلى مشرقه وصولا إلى بلاد المغرب، وشمال إفريقيا، في النبتة التي تحمل نفس التسمية وهي من فصيلة الورقيات، والنباتات الزهرية.
تستمد نبتة الملوخية خصوصيتها من مناخ الشرق الأوسط حيث تنمو في الطقس الدافئ والممطر، ما يجعل إمكانية استزراعها في مناطق أخرى من العالم صعبا، وفضلا عن سهولة زراعتها وامتدادها على مدار السنة، تتميز الملوخية بمحصولها الوفير إذ تجمع قرابة 4 مرات خلال موسم واحد.
من الفراعنة إلى الفاطميين
تجمع الروايات على أن الفراعنة قد كانوا أول من عرف الملوخية، بعد اكتشاف نموها على أطراف وادي النيل، ومنطقة الدلتا. ورغم الطفرة التي أحدثها الفراعنة في الفلاحة من خلال زراعة البقوليات إلا أنهم تأخروا في إدراك القيمة الغذائية للملوخية إلى غاية غزو الهكسوس، والذين أبادوا المحاصيل الزراعية، ما أجبر المصريين على أكلها بعد أن كانوا يحسبونها نبتة سامة، وهو ما يفسر حسب الرواية تسميتها المشتقة من مصطلح “خية” الفرعوني، ويعني “السام”.
تربط الرواية الثانية التسمية بالفاطميين الذين كانوا أول من طبخها في عهد الخليفة المعز لدين الله، والذي أعجب بطعمها حتى دعاها “بالملوكية” ثم شاعت لاحقا بين أهل مصر باسم الملوخية.
بين ملوخية المشرق، والمغرب العربي
يصاب الكثيرون من أهل المشرق العربي بالذهول والصدمة، عندما يكتشفون أن طهي الملوخية التونسية يستغرق 4 ساعات تقريبا، فما هذه الوصفة التي يتطلب إعدادها من الوقت ما يكفي لطهي خروف على الحطب؟
يكمن السر في التفاصيل، والمكونات، والمقادير، فخلافا لوصفة الملوخية التي يشتهر بها المطبخ المصري، والشامي عموما، والذي يعرف بطريقة سهلة، وسريعة التحضير لا تستغرق أكثر من نصف ساعة لإعداد طبخة تجمع في قوامها بين خصائص المرق، والشربة السائلة، تشتهر وصفة الملوخية في تونس بكونها من أصعب الأكلات حتى عد إتقان طهيها علامة على حذق الفتيات لفنون الطبخ.
تعتمد الوصفة المصرية على ورق الملوخية، وإعدادها مع الأرانب، أو اللحم وكذلك الدجاج، حيث تضاف إليها الطماطم، والثوم المهروس، والكزبرة الجافة، والليمون، والسمن، ولا تزيد مدة سلقها في الماء عن 10 دقائق.
في المقابل يستخدم المطبخ التونسي أوراق الملوخية المجففة، والتي تطحن لتحويلها إلى مسحوق ناعم.يضاف المسحوق إلى زيت الزيتون، والماء، واللحم البقري، وتطبخ في البداية لمدة نصف ساعة حتى ينحل المسحوق بشكل كامل، لتتم بعد ذلك إضافة البصل، والثوم والطماطم، والتوابل والملح، ويتطلب تجهيزها ثلاث ساعات أخرى أو أكثر.