محمد بشير ساسي
يتّفق العديد من المؤرّخين والباحثين والخبراء على أنّ نجاح الدّول في الخروج من أزماتها وتجاوز كبواتها، يتوقّفُ على مجموعة متنوّعة من العوامل المترابطة والمتداخلة منها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، إذ في تناغمها يتحقّق الاستقرار، والنموّ والتطوّر في شتّى المجالات، وهي بدورها مُجتمعة تُسهم في خلق مناخات الاستثمار وتوفّر فرص العمل وتؤسّس لتنمية مستدامة.
أهم الأخبار الآن:
غياب المحفّزات
من الطبيعي ضمن هذه البيئة أن يُخطّط بصورة جيدة للمشاريع الناجحة في أيّ دولة طموحة، حيث يُطلق عليها “مناخ الأعمال”، وهذا المناخ يتأثّر ويتطوّر ضمن إطار محفّزات الاستقرار السياسي، والقوانين المسهّلة للعمل التجاري، وتوفّر البنية التحتيّة، والحوافز المالية، بالإضافة إلى محرّكات أخرى تؤثّر في قدرة المشاريع على النمو والازدهار كتحديد الأهداف وإدارة المخاطر والتواصل الفعّال، والتقييم المستمر، وإشراك المجتمع.
على عكس هذه البئية، ولعقود ظلّت انتظارات شعوب دول العالم النّامي وآماله وأحلامه بعيدة كلّ البعد عن نماذج الدّول الناجحة والمستقرة، بعدما تكالبت عليها منغّصات عدة، وهي تواجه تحديات كثيرة في مجالات مثل الفقر، والبطالة، ونقص البنية التحتية، وتفاوت كبير في توزيع الدخل.
الشعبويّة التضليليّة
أمام هذه الكومة من المعضلات، ما يزال قادة وزعماء في المنطقة العربية أمثال الرئيس التونسي قيس سعيّد يتبنّون الخطاب الشعبوي استهواءً لعواطف الناس وتحيّزاتهم، بدلا من أحكامهم العقلانية من خلال ادّعاء تمثيل الشعب (نحن) في مواجهة “الإستبليشمنت” والنخب التقليدية (هم).
ويتجلّى أحد أوجه معاداة الشعبوية للنّخب في معارضة الحقائق، بحيث يصبحُ الشعبويون الفاعلين الرئيسيين في تزييف الحقائق ونشر المعلومات المضللة، فتعزّز الشعبوية والتضليل بعضهما بعضا، ما يخلق حلقة من التلاعب من شأنها تقويض الديمقراطية، مثلما يفسّر ذلك الباحث في مركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مجد أبو عامر في دراسة بعنوان: مرآة بوجهين: الشعبوية السّلطوية والتضليل في تونس ومصر.
ويؤكّد أبو عامر أنه من خلال التحليل الكيفي المقارن لخطاب عبد الفتاح السيسي في مصر وقيس سعيّد في تونس، تحاجّ الدراسة بأنّ ثمة أربعة تكتيكات يتّبعها الشعبويّون السلطويّون لشرعنة تعطيل القيود الدستورية والمؤسساتية وقمع المعارضة:
– بناء الشعب من خلال صنع العدوّ.
– مهاجمة وسائل الإعلام والمؤسّسات الدّيمقراطية.
– صناعة الوهم بتضخيم الإنجازات.
– توظيف تفسيرات نظرية المؤامرة والمعلومات المضلّلة لتبرير الفشل في تحقيق الوعود.
رواية السّلطة
في قراءة للحالة التّونسية وفي ظل الواقع الراهن الذي تخضع فيه تونس لحكم استبدادي غير شرعي كما يصفه الخصوم السياسيّون للرئيس سعيّد، تفرض الأزمة الحادة في تنفيذ المشاريع المعطّلة، نفسها أولوية وطنيّة بالدرجة نفسها التي تمثّلها استعادة الشرعية الديمقراطية، وإعادة بناء نظام سياسي يستند إلى ديمقراطيّة ناجزة ومستدامة، تتجاوزُ هشاشة التجارب السابقة.
بلغة الإحصائيات والأرقام، تواجه تونس منذ جويلية سنة 2021 أزمة حادة في تنفيذ المشاريع العمومية، إذ تشير تقارير حكومية إلى تعطّل أكثر من 1100 مشروع، بقيمة تقديرية تتجاوز 5.7 مليار دولار، حيث تشمل هذه المشاريع قطاعات حيوية كان من المفترض أن توفر عشرات الآلاف من فرص العمل وتُساهمَ في تحسين الخدمات الأساسية للمواطنين الذين يتحمّلون الأعباء بدفع الثمن وفوائض القروض وهم في حالة ترقّب دون أيّ إنجازات.
بالتوازي مع اتساع دائرة السّخط الاجتماعي والتساؤل لدى شريحة واسعة من العائلة السياسية بشأن طبيعة الأسباب التي تقف وراءها، وعمّا إذا كانت تلك الأسباب تكمن في العجز المالي وضعف إمكانات السلطة، أو في تعدّد العراقيل البيروقراطية والإدارية في البلاد، ظلت السلطة في تونس تفنّد رواية من تصنفهم بالخونة والفاسدين والمضلّليين بكونها المسؤولة الأولى عن هذا الفشل.
وفي كل مناسبة تؤكّد حرصها على ضرورة الإسراع في إنجاز عديد المشاريع التي انطلقت وتوقّفت في حين أنّ أموالها مرصودة، وإجراءاتها القانونية مستكملة.
ففي آخر مجلس وزاري أكّدت رئيسة الحكومة التونسية سارّة الزعفراني الزنزري، ضرورة مضاعفة الجهود والتنسيق بين كلّ المتدخّلين في تنفيذ المشاريع بكلّ القطاعات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي لتذليل الصعوبات والعقبات التي تعترض انجاز هذه المشاريع.
وتهمّ هذه المشاريع الحيوية المهمة خاصّة قطاعات:
1- الصحة: بناء وتجهيز لمستشفيات في عديد الولايات وإعادة تأهيل وتجهيز لأقسام طبيّة بالمستشفيات وتطوير نظامها المعلوماتي.
2- التربية والتكوين المهني والتعليم العالي: استكمال برنامج تطوير البنية التحتية بالمدارس الابتدائية ومشروع دعم جودة أساسيات التعليم المدرسي ومشروع دعم التعليم الابتدائي وبرنامج تطوير التدريب المهني وبرنامج دعم التكوين والإدماج المهني وبناء مؤسسات التعليم العالي وتجهيزها.
3- الشؤون الثقافية: ترميم جامع الزيتونة المعمور والمنطقة المحيطة به في مدينة تونس.
4- الشؤون الدينية: صيانة جامع الملك عبد العزيز آل سعود في مدينة تونس.
5- البيئة: إتمام برنامج تطهير البلديات الصغرى وبرنامج التحكّم في الطاقة بمحطات التطهير والبرنامج المندمج لإزالة التلوث بمنطقة بحيرة بنزرت وحماية الشريط الساحلي من الانجراف البحري بقمرت وقرطاج وحلق الوادي.
6- لنقل: مشروع الشبكة الحديدية السريعة.
7- الطاقة والمناجم: مشروع “المظيلة 2” ومشروع شبكة نقل الغاز الطبيعي وتطوير شبكة نقل وتوزيع الغاز الطبيعي ومشروع تهيئة وتجهيز شبكة نقل الكهرباء وبرنامج دعم تركيز المخطط الوطني “تونس الرقمية”.
8- التجهيز والإسكان: قنطرة بنزرت والطريق السيارة تونس – جلمة
والجيل الثاني من برنامج تهذيب وإدماج الأحياء السكنية.
9- الفلاحة والموارد المائية: تهيئة الآبار العميقة لواحات الجنوب التونسي ومشروع إنشاء سديْ السعيدة والقلعة الكبرى ومنشآت نقل المياه المرتبطة بهما وتحسين شبكات مياه الشرب في المناطق الحضرية وإنجاز ثلاثة سدود ومشروع التنمية الفلاحية المندمجة بولاية صفاقس.
10- التنمية الجهوية والمحلية: مشروع خط التمويل المحدث لفائدة صندوق النهوض ومساعدة الجماعات المحلية.
غياب الحلول الواقعية
وفق رؤية الكاتب والسياسي والمرشح الرئاسي السابق في تونس، عماد الدايمي (لخّصها في مقال نشر مع بداية 2021)، بيّن فيه آنذاك، عدم جدوى الدخول في مغامرة إعداد مخطّط خماسي جديد (2021-2025) بالأسلوب البيروقراطي المعتاد، في ظل الأوضاع المعقّدة التي كانت تعيشها البلاد، حيث كانت الأزمة السياسية على أشدها بسبب تشظّي المشهد الحزبي وتصاعد الصراعات الأيديولوجية وتنازع الصلاحيات بين مختلف الرئاسات والمؤسّسات.
ويضيف الدايمي أنّ الوضع الاقتصادي كان في أسوإ حالاته في أعقاب مرور جائحة كوفيد-19، وما خلّفته من تفاقم لعجز الموازنة، وتدهور قيمة الدينار، وازدياد نسب البطالة، وإفلاس مئات المؤسسات الصغرى والمتوسّطة المتأثّرة بالجائحة، مع تصاعد التوتّر والإضرابات في أكثر من قطاع وجهة.
وأكّد السّياسي التونسي أنّ كلّ هذا حدث في ظل تراجع ثقة المانحين والمستثمرين، بسبب تعطّل الإصلاحات الهيكلية وعدم استقرار المناخ السياسي، مشيرا آنذاك إلى أنّ الأولوية ليست إعداد مخطّط خماسي يوزَّع على مشاريع قد يعجزُ تمويلها وقد لا تَحظى بالتوافق اللازم؛ بل تقتضي الواقعية لإعداد “برنامج إنعاش اقتصادي وتضامن اجتماعي” يمتدّ لأربع سنوات، لإنقاذ النسيج الاقتصادي والاجتماعي، على أن يتمّ في الأثناء فتح حوار وطني حقيقي حول منوال التنمية المقبل على مستوى النخب والفاعلين السياسيين والمجتمع المدني والمواطنين عموما، حتّى تُعرضَ المخرجاتُ برامجَ واضحة أثناء المحطّات الانتخابية المقبلة.
بيروقراطية معطّلة
يجمعُ العديد من المراقبين والمحلّلين أنه في ظل طبيعة المرحلة المرتكزة على الشّعارات الشّعبوية وتغيير الحكومات خلال فترات قصيرة، بدت المخطّطات التنموية باهتة وفضفاضة بعدما أُعدّت بشكل بيروقراطي في إطار شكلاني محدود بعيد عن أيّ روح تشاركيّة جدية أو حوار مجتمعي في ظلّ أوضاع سياسيّة جديدة تمثلت في الانقلاب على الدستور وحلّ البرلمان، وتجميع كلّ السلطات في يد رئيس الجمهورية وقمع الحريات واستهداف الأحزاب والمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني.
ضمن هذا السياق، يقرّ العديد من المتابعين بأنّ تعطّل تنفيذ تلك المشاريع مرتبط بعدة أسباب:
– البيروقراطية والفساد الإداري: تُعدّ “البيروقراطية المعطّلة” من أبرز العوامل التي تعيقُ تنفيذ المشاريع، حيث تشملُ هذه العوائق، تعقيد الإجراءات الإدارية وسوء الرقابة والمتابعة، واستشراء الفساد في الصفقات العمومية، وتداخل الصلاحيات بين الوزارات، وسوء التخطيط، بالإضافة إلى إسناد بعض المشاريع إلى شركات غير مؤهلة بسبب المحسوبية، إلى جانب عدم تقديم تسهيلات للمستثمرين خاصة في السنوات الأخيرة ما دفع بعضهم إلى تحويل استثماراتهم نحو بلدان أقل قيودا.
– الأزمة الاقتصادية والمالية: تعاني تونس من أزمة اقتصادية خانقة، تفاقمت بعد جائحة كوفيد-19، حيث ارتفع الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة، وقارب عجز الميزانية في ذروته 9% من الناتج المحلي الإجمالي ما أدى ذلك إلى تقليص الإنفاق العمومي وتأجيل تنفيذ العديد من المشاريع بسبب نقص التمويل.
– غياب الاستقرار السياسي: أدى التوتر السياسي المستمر منذ عام 2011، وتعدد الحكومات إلى غياب رؤية إستراتيجية واضحة لتنفيذ المشاريع. كما أنّ الصراعات السياسية أثّرت سلبا في ثقة المستثمرين، ما أدّى إلى تراجع الاستثمارات المحلية والأجنبية.
– ضعف الإطار التشريعي: تفتقرُ تونس إلى تشريعات واضحة وفعّالة تنظّم تنفيذ المشاريع العمومية، مما يؤدي إلى تأخير في الإجراءات القانونية والإدارية، ويزيد من فرص الفساد والتلاعب.
بشكل عام أدّت السياقات السياسية المتقلّبة بعد الثورة وغياب الرؤية إلى إعادة إنتاج جزء كبير من المنظومة التنموية السابقة -الممتدّة على مدى قرابة 7 عقود- وإن تغيّرت شعاراتها وشكلها، ثم جاءت مرحلة الشعبوية لتعيد التخطيط التنموي إلى مرحلة المركزة المفرطة المرتهنة للإرادة الفردية الآحادية العاجزة كما يقيّمها كثيرون.
وبالتالي فإنّ أزمة المشاريع المعطّلة في تونس تعكس تحديات هيكلية عميقة تتطلّب إصلاحات جذرية في الإدارة والاقتصاد والسياسة، وتجاوز هذه الأزمة يتطلّب إرادة سياسية قوية، وإصلاحات تشريعية وإدارية، وتعزيز الشفافية والمساءلة، بالإضافة إلى تحسين مناخ الاستثمار واستعادة ثقة المواطنين والمستثمرين.
أضف تعليقا